المقالة السابعة عشرة
حتى لا تضيع فلسطين إلى الأبد 4
بدأت سنة 1970م والجو جد متوتر بين فصائل المقاومة وبين الحكومة الأردنية، كل يعد للآخر ويتربص به الدوائر، فالمقاومة من جهة تطاولت على الحكومة الأردنية من حيث التصريحات وانتهاك حرمة الأنظمة والاستهتار بالسلطة، كان نايف حواتمة النصراني يذهب إلى بيروت ليعقد مؤتمرات صحفية يعلن فيها: "إن طريقنا إلى فلسطين هو إسقاط الحكم الرجعي في عمّان".
ومن جهة أخرى فإن اليهود قد شددوا قبضتهم على الحدود، وزرعوها بالأسلاك الشائكة المكهربة وحقول الألغام في كثير من المناطق، وقلّت العمليات التي تجري داخل فلسطين، وتركزت معظم العمليات على إطلاق رصاصٍ طائش تنصب فيه الأسلحة الثقيلة شرقي النهر وينهمر الرصاص كالمطر، وفي اليوم التالي ينزل البيان بعملية (هوشي منه)، ويضعون من الأرقام الخيالية التي تحلو لهم من خسائر العدو المادية والبشرية، ومن جهة أخرى فإن الحكومة الأردنية تتخذ ترتيباتها لليوم الذي ستُجهز فيه على المقاومة، وتثأر لكرامتها التي أهدرت ومرّغت بالأوحال، فأحالت بعض قادة الجيش الكبار إلى المعاش، وأوحت إليهم أن يدخلوا المنظمات؛ ليكونوا لها العين الصادقة واليد الباطشة إذا حان الحين.
ودارت الدوائر، وقد بلغ الاستهتار بقيم الأمة ومُثُلها ودينها في 4 نيسان 1970م الذكرى السنوية لميلاد لينين (غارس دولة الإلحاد في الأرض) -اليوبيل الذهبي-، وأجمعت المنظمات كلها على الاحتفال بهذه المناسبة التي سعدت بها البشرية، وأنقذ بها العمال في الأرض!!
وشكلت لترتيب الاحتفال بهذه الذكرى لجنة يرأسها وزير الأوقاف الأردني، الذي أفتى بعض العلماء بتكفيره بسبب هذه الموبقة التي لا نظير لها من الاعتزاز بالكفر وطواغيته، وقررت اللجنة أن يستمر الاحتفال أسبوعاً كاملاً، وحدد مبنى أمانة العاصمة مركزاً للاحتفالات بهذه الذكرى المجيدة! وحشد لهذا الاحتفال الطاقات والأموال والأجهزة، وطبعت مئات الألوف من صور لينين حتى لا تترك ناصية شارع ولا مفرق طريق ولا باب حانوت إلا وتلطخ بهذه الصور، والشعب الطيب الأردني والفلسطيني يذوب حسرة من أعماقه لهذه الممارسات التي تنتهك حرمة الأمة وقيمها.
وتم الاحتفال والطيبون يجترون آلامهم، والحكومة تريد للشعب أن يستيقظ على هذه الأفعال التي ما رأتها ساحة الأردن الحزينة، وتجهم الجو واكفهرت السماء وأصبحت الدنيا أضيق في نظر الطيبين من كفة الحابل، وصار الصادقون يمرون على القبور فيحسدون أهلها، إنهم غابوا تحت التراب قبل أن يروا هذه المصائب.
وفكرت الحكومة الأردنية في موارد المقاومة البشرية بغية تجفيفها، وقد وصل مستشاروها إلى نتيجة أنّ التجنيد الإجباري الذي يفر منه الشباب إلى المنظمات، وامتحان الإعدادية العامة الذي يحول دون مواصلة الراسبين لدراستهم الثانوية وحرمانهم من الإيواء تحت ظلال المدارس، هي السبب الرئيسي الذي يضطر الشاب إلى أن يلج باب المنظمات إذ أن بقية الأبواب قد أوصدت في وجهه، وبقرار واحد صدر عن مجلس الوزراء من شقين جفف أكبر رافديْن للثورة:
1 - إلغاء قانون التجنيد الإجباري.
2 - إلغاء امتحان الشهادة الإعدادية.
وفعلاً فقد كان سهماً أصاب الثورة في مقتلها، وخلال أيام خلت قواعد الثورة من معظم ثوارها.
والحق أنّ مقتل الثورة إنما هو الخواء الروحي الذي تعاني منه المنظمة، والفراغ العقائدي الذي أحالها إلى قالب فارغ نخره السوس تحطمه أي هزة، وتطيح به أية عاصفة.
لم تكن هنالك أيديولوجية تجمع الثورة والثوار، ولم تبن الطلائع قاعدة صلبة يحمي أعماقها إيمانٌ بالله، واحتماء بركنه الركين، والالتياذ بحصنه الحصين المتمثل بهذا الدين. لقد كان كل شاب يختار لنفسه اسماً حركياً خوفاً من أجهزة الأمن، ولقد اختار سائق السيارة التي توصل إلينا المؤونة اسم أبي جهل، وأما أسماء جيفارا وهوشي منه وماو فحدث عن كثرتها ولا حرج.
لقد كان أحسن الشباب حالاً من يقاتل من أجل تراب فلسطين وأهلها، وإلا فالكثرة الكاثرة تعيش اضطراباً عقدياً وعماءً فكرياً والتباساً هدفياً لا نظير له.
لقد كانت كل المؤشرات توحي أنّ ساعة الصفر تقترب يوماً بعد يوم، وقد أحست الأردن أنّ أمريكا مرتاحة لفكرة الوطن البديل، وهي ترتب لهذا بحيث يتخلى الملك عن الحكم ليتسلمها الثوار، ولتكن الأردن هي الوطن البديل للفلسطينيين كما صدع بهذا بيغن واليهود، وهم يرون أنه لابد للفلسطينيين أن يقبلوا بالأردن كوطن بديل.
واليهود بهذا متفضلون على أهل فلسطين، لأنهم يتنازلون لهم عن الضفة الشرقية من فلسطين المحتلة.
وأصبح الجيش الأردني يحس يوماً بعد يوم أنّ كرامته تُهدر على يد رجال الثورة، فأصبح رجاله نهبة للمغامرين اليساريين من الثوار، وازدادت عمليات الاختطاف من جنوده الذين قد يتعرضون للتشويه وقطع الأنف أو الأذن أحياناً، وكانت هذه العمليات تطبع في قيادة الجيش كبيان ويوزع على كل وحدات الجيش، فأصبح الجيش ينتظر اليوم الذي يثأر فيه لشرفه العسكري من هؤلاء الثوار، وأصبحوا يطالبون الحكومة بالانتقام من الفدائيين، وصاروا ينتظرون الضوء الأخضر حتى ينتفضوا على الفدائيين ويُجهزوا عليهم.
وطبع الجيش مصحفاً ووزعه على أعضائه، ومهدوا للاصطدام بتوجيه معنوي مركّز، حتى استقر في أذهان الجيش أن الفدائيين كلهم كفار وشيوعيون بلشفيون، لا يؤمنون بدين ولا يعرفون حرمة.
وفي أغسطس (آب 1970م) قَبِل عبد الناصر المبادرة الأمريكية للسلام، فانتفض الشعب الفلسطيني في وجهه، وقادوا المظاهرات في عمّان ودمشق وبيروت، وهي أول مرة يقف الفلسطينيون فيها غاضبين كالليوث يزأرون في وجه عبد الناصر.
حقد عبد الناصر عليهم، وأغلق إذاعة صوت العاصفة، وطرد الجرحى من مستشفيات مصر، وآن الأوان لتتفق الأردن ومصر على اجتثاث الوجود الفدائي من جذوره.
مجلة الجهاد - العدد الثامن والخمسون
محرم 1410هـ / أغسطس 1989م