المقالة السادسة عشرة
حتى لا تضيع فلسطين إلى الأبد 3
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد استيقظ العالم العربي صباح الخامس من حزيران على هزيمة لم تعهد البشرية لها نظيراً، ولم يسطّر التاريخ العسكري اندحاراً أغرب من هذا، تبددت الأحلام التي رسمها القادة الثوريون في أذهان المتحمسين من أبناء فلسطين ممن كانوا لا يَزِنون بالموازين الإسلامية، ولا يقيسون بالمقاييس الربانية. لقد كانت هزة عميقة أيقظت الواهمين، وفتحت أعينهم على أولئك السادرين في طغيانهم، وأدركت الشعوب أن هؤلاء الطغاة قد زاولوا طيلة عقد ونصف عملية التخدير لمشاعر الجماهير، ووصل الناس إلى حافة اليأس، ولسان الجمهور يهمس:
ونرى الموت راحةً إن تعالت
في حِمانا زعانف وقرود
حين تغدو الشعوب قطعان ضأن
ويكون العشب الحبيب الوحيد
وديار الإسلام أضحت مزاداً
كل شارٍ بما يشاء يزيد
وكانت فتح هي الفئة الوحيدة التي رفعت شعار القتال لتخليص الأقصى من اليهود، ولقد كانت فتح قد بدأت سنة 1965م بداية رائعة، بنماذج من الرجال عندهم المروءة والنخوة، وتحملوا الكثير وهم يصارعون الأنظمة صراع الحياة أو البوار، ويخوضون معركة الوجود أو الاندثار. ولم تستطع الدول العربية آنذاك أن تفتح فمها في وجه الذين يريدون أن يواصلوا الحل العسكري، إذ أنها كانت متردية في هوة من الدمار الاقتصادي والعسكري والسياسي، وتوارت خجلاً من أن تقابل الجماهير المتحمسة التي تود لو مزقتهم إرباً إرباً.
وبدأت فتح تستنفر طاقات الأمة وتستنهض همم المسلمين وتحرك مشاعرهم، وللأسف العميق لم يتقدم إليها سوى الذين ضاقت بهم سبل العيش؛ لقد تقدم إليهم الشباب الهارب من التجنيد الإجباري الأردني، أو الراسبون في امتحان الإعدادية العامة، أو الذين يجدون في حمل السلاح ولبس المبرقع متنفساً لأحاسيسهم ومرتعاً لأحلامهم دون تربية إسلامية ولا خلفية إيمانية.
أما المفكرون والأساتذة والسياسيون والموظفون والتجار، فتحُول دون وصولهم إلى حمل السلاح الأماني العذبة والأحلام المعسولة، التي تثقل أرجلهم بالقيود دون النفير لمواجهة أبناء الخنازير والقرود. وهكذا ملأ الشباب الغض والفارغون والمغامرون كوادر فتح، دون أن يكون للقيم والمبادئ أثر في حياتهم، أو يكون للإسلام أي وزن في توجيه حياتهم وقتالهم.
وتسلل اليسار (أهل الشّمال) من الأحزاب الشيوعية والقومية والبعثية ودخلوا القضية من جانبها الميسور السهل، واستلموا الأبواق وغابت الأصوات الصادقة تحت ضجيج أبواق أهل الشمال ممن كانوا يفزعون من ذكر الإسلام.
﴿وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون﴾ [الزمر: 35].
كانت أحب الأسماء إلى مسامعهم: كاسترو، جيفارا، هوشي منه، ماوتسي تونغ. وأبغض ما يمكن أن يطرق مسامعهم: قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهال التجار من أهل اليسار مدفوعين من الأنظمة المهزومة لإسناد هذا الغثاء، وفجأة برز جورج حبش -تلميذ قسطنطين زريق المبشر في الجامعة الأمريكية- وشكّل جبهة سماها الجبهة الشعبية، وطفا على السطح بعده نايف حواتمة وشكّل الجبهة الديمقراطية.
وطرحت الشعارات الثورية تلطخ جدران عمّان بالدهان الأحمر وبالخط العريض: "كل السلطة للمقاومة".. "عمّان هانوي العرب".. "طريقنا إلى فلسطين إسقاط الحكم الرجعي في عمّان"، واستُدرجت فتح راضية أو كارهة إلى معركة الشعارات واللافتات.
كانت لدينا تجربة مريرة مع هؤلاء، إذ أننا -أبناء الحركة الإسلامية- كنا نعيش تحت لافتة فتح، وكانت تضمّنا أحياناً معسكرات تجمع إعداداً لمعركة أو استماعاً لمحاضرة زائر، فكان أحدنا يقف إذا حان وقت الصلاة يؤذن، فيصطف أهل الشمال (اليسار) من الديمقراطية يرددون:
إن تسل عني فهذي قيمي
أنا ماركسي لينيني أممي
لقد كانت بجانبنا في قرية الرفيد في شمال الأردن قاعدة للجبهة الديمقراطية، كان سر الليل فيها سب الإله أو الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كثر الغثاء وزاد البلاء، وتوارى الصالحون وبرز الحاقدون على هذا الدين، وخَفَتَ نداء الصادقين وبُحّ صوت المخلصين، وأضحت مشاعر الإسلام غريبة في هذا الجو الكئيب، وأصبحت العزلة نداء الأعماق الحبيب، وتبدلت الأرض غير الأرض:
فلا الأذان أذان في منائره
إذا تعالى ولا الآذان آذان
مجلة الجهاد - العدد السابع والخمسون
ذو الحجة 1409هـ / يوليو 1989م