المقالة الثالثة عشرة
خمس دقائق للقضية أم للطاقية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
في التسعين من العمر، وقد لحب الجنبان، واحدودب الظهر، لا تفارقه العصا التي يتوكأ عليها، لا أهم بالخروج إلى المعسكر أو الجبهة إلا ويبادرني قائلاً: أين يا بني؟ فاذكر له وجهتي، فإن كان الجواب الخروج إلى معسكر التربية والتدريب يسألني: وكيف النور في دورة المياه؟ فإن اطمأن إلى النور في الليل حمل عصاه ورافقني.
دربناه على الكلاشنكوف والرشاش الخفيف، ثم قلت له: نعطيك الكلاشنكوف ليكون سلاحك الفردي، فقال: لا بل أريد البندقية الإنجليزية (لي إنفيلد) التي جاهدت فيها مع تركيا ضد بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، فيبتسم سياف قائلاً: هذه هدية مني إليك.
وكنت أحياناً أدعه في معسكر التدريب متوجهاً إلى الجبهة، فألمح في محياه آثار الحسرة وسحابة الحزن، ودّعني ذات مرة وعيناه تذرفان ثم قال: لقد فاتتنا الشهادة أيام أن كنا شباباً؛ وكنا إذ ذاك نستطيع أن ندخل المعارك، وتجده أحياناً يحلم بالشهادة قائلاً: أود أن أرافقك إلى الجبهة لعل رصاصة يسوقها الله ننال الشهادة والجنة. فرددت أبيات الشاعر:
عمري بروحي لا بعدّ السنين
فلأسخرن غداً من التسعين
عمري إلى التسعين يجري مسرعاً
والروح ثابتة على العشرين
أما في بيشاور، فكلما هممت بزيارة أحد القادة ألح عليّ أن يرافقني لزيارته، ثم يأخذ بيد القائد ويأخذ عليه العهد أن يجاهد لتحرير الأقصى ويقول: الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، لقد أخذ العهد على سياف وعلى حكمتيار وعلى يونس خالص، وما من مرة يقابل فيها الشيخ سياف إلا ويقول له: العهد.. الأقصى، فيؤكد له سياف إصراره على العهد وبقاءه عليه.
وكنت ذات مرة مع مجموعة من الإخوة في زيارة الشيخ جلال الدين حقاني، وكانوا ضيوفاً من العالم العربي، فقال أبو الحسن المدني: أين الوالد ليأخذ العهد على الشيخ جلال الدين؟ فأجبت: أنا وكيله بأخذ العهد، فقبضت بيد الشيخ حقاني وأخذت عليه العهد. وعندما عدت إلى البيت بشّرت والدي بأننا أضفنا إلى العهود عهداً جديداً من شيخ جليل مجاهد.
إن التربة الخصبة تنبت نباتاتها بإذن ربها ناضجة شهية: ﴿والذي خبث لا يخرج إلا نكداً﴾ [الأعراف: 58].
وإن أرض الجهاد لتصقل الروح، وتصفي القلب، وتقلب كثيراً من الموازين، فتجدنا في أرض النزال وميدان الأبطال حديثنا الذي يسيطر على نفوسنا ويأخذ بمجامع قلوبنا: الشهداء.. الجرحى.. الانتصارات.. الجبهات.. الأيتام.. القوافل.. الإمداد والإعداد.. السرايا والكتائب.. القادة.. هزائم الروس.. ماذا عن قندهار؟ وكيف حصار جلال أباد؟ وما حاجة القوم في بغمان أو شكردرا؟
وهذا الجو الساخن الجاد يسوق الإنسان للكلام عن آلامه وآماله طوعاً وكرهاً، ولذا لم يكن مستغرباً من أبي أن تكون هذه المشاعر هي التي تشده، وهذه الأفكار هي التي تسيطر على نفسه وتستحوذ على اهتمامه، أما في المجتمعات الراكدة فلا تجد الحديث يرتفع عن البطون والفروج، هل الأصل التعدد في الزوجات أم الإفراد؟ سعر الدينار والدولار.
قلت لصاحبي وهو من الدعاة الذين نحبهم ونحترمهم: اسمع مني ألخص لك قضية الجهاد؟ فاعتذر لي بانشغاله، فقلت له: خمس دقائق؟ فاشترط عليّ ألا أزيد عن خمس دقائق ثم قال: على رسلك حتى أبحث عن طاقيتي التي ألبسها تحت غترتي، ومكث قرابة خمس دقائق يبحث عن طاقيته، فقلت له: خمس دقائق لأعظم قضية وخمس دقائق للطاقية؟!!
وكلٌ يرى طرق الشجاعة والندى
ولكن طبع النفس للنفس قائد
وما أجمل كلام ابن القيم: (الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيّئ للسباق، ومن أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل، وبأي شغل يشغله، فكن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا، فإن الولد يتبع الأم).
مجلة الجهاد - العدد الثالث والخمسون
شعبان 1409هـ / أبريل 1989م