المقالة الحادية عشرة
من كابل إلى القدس
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد كنت صبيحة هذا اليوم -الخميس 23 فبراير 1989م- على الفطور مع الشيخ سياف والصواف والزنداني، ننعم بأخبار انتصارات الجهاد الأفغاني المبارك التي منّ الله بها فوق ما كان يتصور الخيال، ويمر في الخواطر، وما لا يمكن أن يتصور مجرداً في عالم المثال.
ولكنها إرادة الله فوق كل شيء، ومشيئته التي لا ترد، وقدره الذي لا تواجهه قوة.
﴿وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً﴾ [فاطر: 44].
وعرضت لقطة أثناء الحديث من قبل ضيف قادم من الإمارات فقال: لقد رسمت جريدة الاتحاد كاريكاتيراً يصور انتصار المجاهدين الأفغان، ويبدو في الصورة مجاهد أفغاني يحمل سلاحه، ويقابله رجل من فلسطين الثورة يرتب أوراقه السياسية ليراجع بها المنظمات الدولية، ويتساءل الثوري مستغرباً: كيف خرج الروس دون أن يكون مع هذا المجاهد أوراق سياسية؟!
قال سياف: لقد حاولت أن أتخفف من أعباء الحكم لعل الله ييسر لي أن أؤدي دوراً في فلسطين ضد أعداء الله اليهود، فردّ الشيخ الصواف عليه قائلاً: بل انغماسك في حكم أفغانستان طريق إلى فلسطين، فقلت لسياف: لقد لمست أن غالبية الشعب الأفغاني يرتبط بحب عميق ورباط وثيق بفلسطين والقدس، فرد سياف قائلاً: إن كنت أنسى فلا أنسى في حرب 1967م يوم خرجت كابل عن بكرة أبيها تبكي وأهلها يطالبون بفتح الطريق إلى القدس، ولقد رأيت الناس حتى الشيوعيين يبكون! وتوجهنا نحو وزارة الخارجية الأفغانية فأغلقت دوننا الأبواب، ثم توجهنا نحو السفارة المصرية فأوصدت في وجوهنا المنافذ، ووقفت فوق سيارة في ساحة السفارة وبدأت أخطب وأهتف بالجماهير، ثم صعد شيوعي معروف جداً وبدأ حديثه للناس بالآية القرآنية:
﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم﴾ [الصف: 10].
فلم يخرج إلى الناس أحد سوى خادم يعمل في السفارة المصرية.
وكم سمعت قادة الجهاد -خاصة سياف- يرددون قضية فلسطين، وأما سياف فيعتبرها قضية الإسلام الأولى في العالم، ولكنه يضيف: دهمنا بهذه الداهية فشغلتنا عن أنفسنا، ونرجو الله أن يعيننا على دحر هذا العدو ثم أداء واجبنا المقدس تجاه البيت المقدس.
أما حكمتيار، فقد جرى حوار بيني وبينه عن الوجهة التي أعزم عليها بعد كابل، فقلت له: لقد كان جل همنا وغاية أملنا أن تنتصروا، حتى إذا وصلتم كابل ودعناكم، ولعل الله يفتح لنا ثغرة في فلسطين نواصل فيها الجهاد ويرزقنا الله فيها الاستشهاد.
فرد حكمتيار: لا، بل نشترك معاً في بناء أفغانستان المسلمة بدولتها الإسلامية ثم نمضي معاً إلى فلسطين.
وكثيراً ما أقول في نفسي: لقد حق لليهود أن يحسبوا ألف حساب لهؤلاء الشباب من أبناء الدعوة الإسلامية، الذين يقودون مسيرة هذا الجهاد المبارك، ويغدر اليهود وهم يبدون الفزع الشديد والرعب الأكيد من أخبار الانتصارات الأفغانية، وكلما اقترب هؤلاء من منصة الحكم كلما أُطلقت الحملات الإعلامية الشعواء من خلال الصحف اليهودية العالمية الغربية -والأمريكية بالذات- على الجهاد وقادته الملتزمين الذين يطلقون عليهم تلك الكلمة التي تفزعهم (الأصوليين).
إن فرائص أعداء الله عامة واليهود خاصة، لترتعد هلعاً، كلما رأوا هذا الجهاد يقترب من النصر النهائي، خاصة وهم يرون هذا الشعب الذي لم تلن له قناة، ولم يهن له عزم، رغم الأزراء الفوادح والدواهي الكوابح التي أمطرت عليه.
﴿فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين﴾ [آل عمران: 146].
وكثيراً ما يتردد على ألسنتهم دعاء خاشع مخبت: "اللهم حرر على أيدينا كابل ولا تمتنا إلا في بيت المقدس".
ولقد هزتني تلك القصة الموحية التي سمعتها من الشيخ برهان الدين رباني فماً لأذن، وهو يحدثني قصة امرأة دخلت بيتهم، وأصرت على مقابلته، وقطعت له اجتماعه، فعندها جاءها رباني وإذا بها تخرج علبة من حقيبتها قد أودعتها حليها وزينتها وناولتها رباني قائلة: "هذه حليي جئتك بها حتى تجهز غازياً إلى فلسطين".
ولقد ذهل نيكسون وهو يرى رجلاً طاعناً في السن في مخيم ناصرباغ يتقدم إليه قائلاً: "لماذا بعتم فلسطين لليهود؟".
هذا شعب أفغانستان المسلم:
تعود ألا تقضم الحب خيله
إذ الهام لم ترفع جنوب العلائق
ولا ترد الغدران إلا وماؤها
من الدم كالريحان تحت الشقائق
وهذه أفغانستان شعب الشمم والإباء، فهل يقابله شعب فلسطين بالإحسان والوفاء؟
مجلة الجهاد - العدد الثاني والخمسون
رجب 1409هـ / فبراير ومارس 1989م