المقال التاسع
رسالة الأخوّة والمحبة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن شريط الذكريات إذ يلف دورته لمدة عقدين من الزمان قد خلت لتنقلنا إلى أرض فلسطين أيام أن كنا نعيش نعد أنفسنا للمعركة، ونهيئ قلوبنا للقاء الله.
كنا مجموعة قليلة نعيش بين الغابات، ويحس أحدنا بسعادة غامرة، وكانت هذه السعادة انعكاساً للعلاقات الأخوية التي كانت تحكم تصرفاتنا، مستضيئة بضوء الشرع، وعلى هدي من الكتاب والسنة.
وما أحسست بالسعادة في فترة من سني حياتي أكثر منها في تلك الفترة، كانت قلوبنا إذ ذاك تكاد تشق الصدور وتطير فرحاً ترفرف في عالم (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف).
وكانت هذه السعادة كما أشعر في أعماقي هدية ربانية لقلوبنا يوم أن استوحشت من عالم الناس، واعتزلت دنياهم فآنس الله أفئدتنا بمعرفته، وأراح قلوبنا بالالتجاء إليه.
أبدلنا بآبائنا أباً، وبإخواننا إخوة، وبأمهاتنا قضية نحيا من أجلها ونعيش لتحقيقها، محاولة منا لإقامة شرع الله في الأرض، ونصرة دينه وإعلاء مبادئه.
كنا نعيش كأننا أسرة واحدة وثيقة الروابط، شديدة العلائق، وكان أحدنا إذا غاب عن القاعدة لعذر من الأعذار نستوحش كثيراً لفقده، بينما الغياب لا يطول أكثر من يومين.
أما إذا غاب الأخ المسؤول فكأن البدر قد تغيّب، ونحس في أعماقنا بغربة تنكر إزاءها أرواحنا، وتضيق لها صدورنا.
ما كنا نطيق أن نسمع عن بعضنا إلا خيراً، فضلاً عن أن نتكلم بأية كلمة إلا بخير.
أذكر أني كنت واقفاً ذات مرة مع مجموعة من الإخوة، فسمعت من أحدهم كلمة لا تليق بمقام الأمير، وكانت هذه أول مرة أسمع فيها كلمة تخدش هيبة الأمير لي في قلبي، فاهتز كياني واستنكرت ما سمعت.
كانت أنفسنا بعد هذه الفترة التي تشبه الأحلام سعادة وانشراحاً وغبطة، والقلب يردد بالنسبة لهذه الفترة الذهبية:
أهيم بها حباً وعشقاً وألفةً
هيام شجيرات الحدائق بالطير
وببركة هذه المودة والمحبة حفظ الله الإخوة كثيراً من كيد الكائدين، فيوم أن تجهمت الدنيا في وجه الفدائيين في فلسطين، ويوم أن اكفهر الجو وتلبد بالغيوم، واحتد النزاع بينهم وبين الجيش الأردني، فلما نجا ممن حمل السلاح أحد إلا الإخوة الذين يعملون معنا في القواعد، فلم يمسهم سوء، وانقلبوا بنعمة من الله وفضل، وهذا من فضل الله العظيم، وببركة هذا الحب أحبنا أهل القرى الذين احتكوا بنا، فوقفوا في وجه الدبابات الأردنية قائلين: "هؤلاء أبناؤنا، علمونا ديننا، وحفظوا أعراضنا، وإيذاؤهم إيذاؤنا".
وتفرقنا بعد أن ضرب الجيش قوة المقاومة فوق ساحة الأردن، ولم يبق في طيات القلوب حب أعمق ولا مودة أقوى من تلك التي بذرت بذورها ونبتت جذورها تحت ظلال السيوف، وصار مرور طيف أحدهم في خيالنا يؤرقنا، ولسان حالنا يقول:
بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا
شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
ونرجو الله عز وجل أن ينادينا فيمن ينادي يوم الحشر الأكبر: (أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)، وأن نكون على منابر من نور ممن يغبطهم الأنبياء والشهداء على منزلتهم من الله يوم القيامة.
وإن أخبار التكافل الاجتماعي الذي نسمع بأصدائه في انتفاضة الجهاد المباركة في فلسطين هذه الأيام، ما هي -إن شاء الله- إلا انعكاساً للمحبة والأخوة التي استقرت في الأعماق في رحاب الأقصى المبارك فوق الأرض المباركة.
مجلة الجهاد - العدد التاسع والأربعون
ربيع الثاني 1409هـ / نوفمبر وديسمبر 1988م