المقال السابع
رسالة الزهد والتقشف
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فلقد رأيت أن أخطر داء يودي بحياة الأمم؛ هو داء الترف، الذي يقتل النخوة، ويقضي على الرجولة، ويخمد الغيرة، ويكبت المروءة، وقد وضّح رب العزة هذا قائلاً:
﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً﴾ [الإسراء: 16].
أقول هذا وأنا أستعيد في ذهني شريط الذكريات في فترة الإعداد للجهاد في فلسطين، فقد كان مدربنا أبو أسامة يصر على التقشف والشظف، وعلى خشونة العيش طيلة فترة التدريب، عشناها أربعة أشهر في معسكر التدريب -في العَلوك- وكان الشاي من المحظورات، لا أذكر أني شبعت طيلة هذه الأشهر إلا مرة واحدة.
كان نصيب كل واحدٍ منا في كل وجبة نصف رغيف من الخبز الشامي الرقيق، ونصطف بعد طابور الصباح العنيف؛ فيقوم الأخ أبو إسماعيل ليناولنا نصف الرغيف، ويجلس قرب تنكة الزيتون الأخضر، ثم يعد لكل واحد منا عشر حبات من الزيتون، وكان دقيقاً جداً لا تكاد تفلت من بين يديه حبة واحدة زيادة.
كان معنا في ذلك الوقت الشهيد محمد صالح عمر الوزير السوداني المعروف بأبي معاذ -رحمه الله- الذي استشهد فيما بعد في جزيرة أبا، والسودانيون مولعون بالشاي ولا يأكلون الزيتون الأخضر، لقد التمس أبو معاذ مع إخوانه السودانيين التماساً حاراً من المدرب أن يقدم لنا كأس شاي مع وجبة الفطور، ولكنه أبى بإصرار شديد.
كان الخبز يؤتي به من عمان، ثم يجفف في الشمس، ويحفظ في الأكياس، ونبقى مدة شهر تقريباً نأكل من هذا الخبز، وكنا نستعمل كعوب البنادق لنكسر الخبز والماء لنبله به ليلين بعض الشيء قبل أن نبتلعه، وقد تكسرت أسنان بعض الإخوة لجلافة الخبز وجفافه.
كان معسكرنا بين أشجار البلوط، فكنا نتحين درساً عملياً للرماية أو التدريب بين هذه الأشجار؛ لعلنا نجد بعض ثماره اليابسة التي نأكلها لنسد بها رمقنا، أو نُسكت به تلوّي بطوننا من المخمصة.
كانت مرحلة قاسية، ولكنها ربت النفوس على مواجهة الصعاب، واحتمال أشق الأحوال، فلم تعد النفس بعدها تعاف طعاماً ولا تأبه بشظف ولا بشدة.
إن في النفس طاقة مدخرة من الاحتمال لا يدركها الإنسان إلا إذا اضطر إليها، ولا يلجأ إليها مختاراً ولكن رغم أنفه.
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ولقد رأيت أن التقشف والزهد طابع مميز للتربية النبوية الكريمة لنفسه صلى الله عليه وسلم ولأهله من حوله، ثم لأصحابه، وبقي هذا النمط من العيش قمة شاهقة فريدة لمن أراد أن يتسلق صاعداً إلى ذروة سنام الإسلام -الجهاد-، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه).
وخطب عتبة بن غزوان قائلاً: (لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة -شملة مخططة- فشققتها بيني وبين سعد بن مالك -ابن أبي وقاص- فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً).
هذه التربية أبرزت نماذج فتحت الدنيا ولم تتغير، ولولا تقشف الشعب الأفغاني ما استطاع أن يقف هذه السنين الطوال يصارع الموت والجوع والعري والمرض والمتربة، ويتصدى لأقوى قوى الأرض، أما الذين يعكر صفوهم غياب الشاي عن المائدة، أو البيبسي كولا بين المشروبات، أو لا يستطيع أن يأكل إلا والفواكه واللحوم والأرز والتوابل والحلويات تزين موائده، فلابد لهم أن يبحثوا عن طريق المجد وسبيل العزة والجنة، إنه غير هذا الطريق:
على قدر أهل العزائم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
ويعظم في عين الصغير صغيرها
ويصغر في عين العظيم العظائم
مجلة الجهاد - العدد السادس والأربعون
محرم 1409هـ / أغسطس 1988م