المقال السادس
رسالة الإخلاص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فالأحداث الساخنة تثير أشجان الذكريات من هناك في فلسطين.
في الأغوار وقرب مشروع روتنبرغ كانت تمر دورية يومية مكونة من كاسحة ألغام ودبابة وعربة مصفحة، ويزمع ستة من الإخوة من قواعد الحركة الإسلامية التي تستظل بلافتة (فتح) أن يتعرضوا لها، ورصد الإخوة الدورية لعدة أيام؛ ثم دخلوا إلى الضفة الغربية للنهر، وحفروا خنادقهم، وكل واحد منهم يدرك من أعماقه أن خندقه سيكون قبره الذي يلفظ فيه أنفاسه الأخيرة.
وحدد يوم الرابع من حزيران سنة 1970م موعداً لتنفيذ العملية، ويشاء الله أن تتأخر العملية لليوم الخامس من حزيران ذكرى هزيمة العرب قبل ثلاثة أعوام، وصمة العار التي لطخت جبين الأمة، ولم يشهد لها التاريخ نظيراً، ويشاء الله أن يتفق دايان -وزير الدفاع الإسرائيلي- مع صحفي كندي ومصور غربي، ليريهما أن الضجة الإعلامية حول العمل الفدائي لا تتعدى زوبعة في فنجان، أو صيحة في واد، بل سحابة صيف عن قليل تقشع.
حمل الإخوة ألبستهم الجميلة المعطرة في داخل أكياس بلاستيكية، حتى لا تتلطخ بأوحال نهر الأردن أثناء خوضه واجتيازه، ولبسوا ألبستهم العسكرية حتى يجتازوا بها النهر، وبعد أن وصلوا خنادقهم خلعوا الألبسة بما علق عليها من غبار وأوحال، ولبسوا الملابس المعطرة التي سيستقبلون بها الحور العين.
كانوا في ثلاثة خنادق، كل خندق يضم أسدين، أحدهما يحمل (آر بي جي) والآخر يحمل كلاشنكوف حامياً له.
ومرت الدورية... وتنقض الليوث فجأة... وتطايرت أفئدة الكفار هلعاً.. واختفت ألسنة العرب في سماء العجاجة.. ولا يرى إلا بريق الأسنة، ويصور (بشار) المنظر:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وأصيبت آليتان وأفلتت الثالثة، وفتحت رشاشاتها على الإخوة واستشهد ثلاثة على الفور، إذ أن المسألة لا تزيد عن مائة وخمسين متراً، ومضى أبو معاذ الحموي وبلال المقدسي وثالث أنسانيه الشيطان أن أذكره، ووقف أبو إسماعيل -إبراهيم- وقد أحدق به الموت، وجاءه الكوماندوز من كل مكان، فأيقن بفوت النجاة، فطفق مسحاً بالسوق والأعناق، ونجاه الله عز وجل.
وأما إبراهيم الثاني -ابن بلة- فأراد أن يودع الحياة بالنظر في القرآن، فوقع بصره لأول نظرة على آية ﴿سلام على إبراهيم﴾ [الصافات: 109]، فنزلت على قلبه برداً وسلاماً، ووقف الكوماندوز فوق رأسه فأغشى الله بصره ولم يره، ونجا إبراهيم.
وهرع الإعلام المركزي لفتح ليقوم بتحقيق صحفي مع الفئة الناجية، ووصل إلينا -إلى المغارة التي نقيم فيها- بعد أن سمع من إذاعة العدو ضخامة العملية وخسائرها. وأبى الإخوة التصوير، ورفضوا أن يتحدثوا، وحاولوا معهم فأبوا قائلين: لا نحبط أعمالنا ونبطل ثواب جهادنا بظهورنا.
ووقف رجال الإعلام من فتح مذهولين لا يجدون جواباً وهم يرون فئة تعمل بصمت ثم تختفي.
فإذا أقبل الزمان توارى
وإذا زاغت العيون تراه
ويقارنونهم بالكثيرين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً (تسمع جعجعة ولا ترى طحناً).
وهكذا الذين يصنعون التاريخ ويبنون الأمم من نماذج هذه الأمة، إنهم لا يريدون أن يقال لأحدهم: (قاتلتَ ليقال عنك جريء ثم يُلقى في النار).
إنهم يعلمون أنّ الله لا يقبل عملاً إلا إذا كان خالصاً صواباً.
﴿والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون﴾ [المؤمنون: 6].
مجلة الجهاد - العدد الخامس والأربعون
ذو الحجة 1408هـ / أغسطس 1988م