المسألة الثالثة: (في كيفية صلاة الليل)
ذهب الإمام مالك ([19])والشافعي ([20])وأحمد ([21])وطائفة من السلف إلى أن صلاة الليل مثنى مثنى إلاّ ركعة الوتر، على خلاف بينهم هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب. وحجتهم في هذا ما جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) وقوله: (مثنى مثنى) معدول عن اثنين اثنين، والمراد أن تسلم في كل ركعتين قيل وجوباً وقيل استحباباً. قال في المبدع ([22]): فإن زاد على ذلك فاختار ابن شهاب والمؤلف أنه لا يصح، قال أحمد فيمن قام في التراويح إلى ثالثة: يرجع وإن قرأ، لأن عليه تسليماً، ولابد. للخبر. وعنه يصح مع الكراهة. ذكره جماعة، وهو المشهور، سواء علم العدد أو نسيه) وعنه لا يكره ([23])وهو مذهب أبي حنيفة قال رحمه الله في صلاة الليل (إن شئت ركعتين وإن شئت أربعاً وإن شئت ستاً وثمانياً لا تسلم إلا في آخرهن) ([24]) والأفضل في مذهبه صلاة أربع بسلام واحد لخبر عائشة في الصحيحين حين سألها أبو سلمة بن عبدالرحمن عن كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل قالت: يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً).
وهذا الحديث مجمل ليس فيه التصريح بصلاة أربع بسلام واحد والاحتمال فيه وارد وإن كنت استظهر فيه الأربع بسلام واحد جرياً على الأخذ بالظاهر حتى يرد لفظ صريح يخرجه عن ذلك. وحديث ابن عمر ((صلاة الليل مثنى مثنى) لا يدل على وجوب التسليم في كل ركعتين ولفظه لا يساعد على ذلك فيحمل على الاستحباب وأنه الأكثر استعمالاً. وغيره من الأحاديث تحمل على السنية في بعض الأحيان، والعبادات الواردة على وجوه متنوعة يعمل بها كلها وهذا أفضل من المداومة على نوع وهجر غيره فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم عمل الأمرين على أن المداومة على نوع مراعاة للمصلحة ودرءاً للمفسدة قد تكون أفضل في وقت دون آخر كما أن المفضول يكون فاضلاً وهذا أمر عام في كل العبادات الواردة على هذا الوجه والقول الجامع فيها مراعاة المصالح وهذا يختلف باختلاف الأحوال والبلاد والأشخاص والله أعلم
وهل يتشهد في الركعتين أم يصلي الأربع بتشهد واحد، لا أ علم في ذلك دليلاً والأظهر فيها التخيير. إن شاء صلى أربعاً بتشهد واحد، وإن شاء تشهد تشهدين، ولا يسلم إلاّ في آخرهن.
وأما الوتر: فله أن يوتر بركعة. لحديث ابن عمر السابق (فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة...) متفق عليه. وعند مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن أبي مجلز قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر ركعة من آخر الليل) وإن صلى قبلها شفعاً فهذا أفضل.
وله أيضاً الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع إلاّ أنه إذا أوتر بثلاث لا يتشهد تشهدين، بل يقتصر على التشهد في آخر الصلاة. والسنة أيضاً لمن صلى تسع ركعات أن لا يجلس فيها إلاّ في الثامنة فيجلس ويذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض بدون سلام ثم يصلى التاسعة ثم يسلم. والحديث في صحيح مسلم ([25]) من حديث عائشة وجاء في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما سلم وهو قاعد.
والتنويع في هذه الصيغ أفضل محافظة على السنة واتباعاً للنصوص الواردة في هذا الباب.
والكل سنة بما في ذلك قيام الليل والوتر إلاّ أنه سنة متأكدة، كما هو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين. وهو قول مالك والشافعي وأحمد، والأخبار في هذا متكاثرة.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى وجوبه ([26])وقال غيره: واجب على أهل القرآن. والراجح قول الجمهور، وأنه سنة على عامة المسلمين.
وقد روى أبو داود في سننه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبدالله بن الصُنابِحِيّ قال: زعم أبو محمد أن الوتر واجب. فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد. أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات افترضهن الله عز وجل من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه) ([27])سنده صحيح.
ورواه أبو داود أيضاً من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أن رجلاً من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلاً بالشام يدعى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب....)
وأما حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً (الوتر حق على كل مسلم) فلا يصح إلاّ موقوفاً. قاله أبو حاتم والذهلي والدارقطني وغيرهم. قال ابن حجر: وهو الصواب ([28]).
وأما حديث بريدة مرفوعاً (الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا) الحديث رواه أبو داود وغيره. فإنه خبر لا يصح. في إسناده عبيد الله بن عبدالله العتكي، قال عنه البخاري عنده مناكير، وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلاّ به ([29]). وقال ابن حبان يجب مجانبة ما ينفرد به ([30]).
وأما حديث علي مرفوعاً (يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر) ففي صحته نظر فقد رواه أبو داود من طريق زكريا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش كلاهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي به ورواه سفيان الثوري وغيره عند الترمذي والنسائي عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه قال (الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا هو المحفوظ فإن سفيان أحفظ وأضبط من كل من رواه عن أبي إسحق قال الترمذي (2/317) في جامعه وهذا أصح من حديث أبي بكر بن عياش.
فترجح من هذا قول الجمهور أن الوتر سنة وليس بواجب على أنه لو صح ليس نصاً في المسألة فقد دلت أحاديث أخرى على عدم الوجوب فيحمل هذا الخبر على تأكد السنية والله أعلم.
المسألة الرابعة : (فيما يقرأ في الوتر):
السنة لمن أوتر بثلاث أن يقرأ بعد الفاتحة (سبح اسم ربك الأعلى) وفي الثانية (قل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة (قل هو الله أحد). لحديث سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) رواه أحمد ([31])وأبو داود ([32])والنسائي ([33])وغيرهم.
واستحب الإمامان مالك والشافعي رحمهما الله قراءة المعوذتين بعد الإخلاص. وذلك لما روى أبو داود ([34])والترمذي ([35])وابن ماجه ([36])من طريق خصيف عن عبدالعزيز بن جريج عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين.
وروى ابن حبان في صحيحه والطحاوي والحاكم وغيرهم من طريق يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة به. وصححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي بشيء، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار ([37]).
وفي هذا نظر فلم يثبت في الحديث زيادة المعوذتين ولا تشرع قراءَ تهما بعد الإخلاص وقد أنكر الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين زيادة المعوذتين وإليك البيان:
خبر عائشة الأول فيه انقطاع، فإن ابن جريج لم يسمع من عائشة قاله الإمام أحمد وابن حبان وجماعة ([38])وقال البخاري في التاريخ الكبير (6/23) عبد العزيز بن جريج عن عائشة لا يتابع في الحديث. والراوي عنه خصيف بن عبدالرحمن سيء الحفظ. وضعفه أحمد وابن خزيمة وقال يحيى بن سعيد القطان (كنا تلك الأيام نجتنب حديث خصيف) ([39]).
وأما الحديث الثاني فلا يصح . وتفرد يحيى بن أيوب لا يحتمل. قال الأثرم: سمعت أبا عبدالله يسأل عن يحيى بن أيوب المصري فقال: كان يحدث من حفظه، وكان لا بأس به، وكان كثير الوهم في حفظه فذكرت له من حديثه عن يحيى عن عمرة عن عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر....الحديث. فقال: ها، من يحتمل هذا، وقال مرة: كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا، وأنكر حديث يحيى خاصة) ([40]).
وقال العقيلي (أما المعوذتين فلا يصح) وحينئذٍ لا تشرع قراءتهما بعد الإخلاص لضعف الخبر في هذا فيقرأ المصلي بالوارد من صحيح الأخبار (سبح اسم ربك الأعلى) في الأولى وفي الثانية (قل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة (قل هو الله أحد) ولا يزيد على هذا. وبعض أهل العلم لا يرى استحباب تقصد قراءة هذه السور الثلاث ([41]) وفيه نظر. وحديث أبي بن كعب يرده. وقال بعض أهل العلم لا يداوم على قراءة هذه السور في الوتر لأنه يفضي إلى اعتقاد أنها واجبة ([42]). وفي هذا القول قوة لأنّ المداومة لم تثبت، وأما التعليل ففيه نظر لأنه ينسحب على جميع السنن، وهذا غير صحيح.
واعلم أنه يستحب إذا سلم من وتره أن يقول سبحان الملك القدوس ثلاثاً لحديث أبي بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر... الحديث) وفيه فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات) رواه النسائي ([43]).
وفي حديث عبد الرحمن ابن أبزى وهو صحابي صغير (ويرفع بسبحان الملك القدوس صوته بالثالثة). رواه أحمد والنسائي. وزاد الدارقطني ([44])من حديث أبي ابن كعب (رب الملائكة والروح) ولا تصح هذه الزيادة والمحفوظ ما تقدم.