يا لطيًفا بالعباد, لطيفا لما يشاء
الطف بنا في جميع الأمور..
من اجمل ماقرأت عن لطف الله في عباده
تأملوها بعنايه
ما معنى: لطف الله ُ بعبده, ولطفه لعبده الذين تتعلق به آمال العباد, ويسألونه من ربهم? وهو أحد معنيي مقتضى اسمه اللطيف
ولنذكر بعض أمثلته وأنواعه; ليتضح:
فاعلم أن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال ولسان الحال هو من الرحمة, بل هو رحمة خاصة; فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف
فإذا قال العبد: يا لطيف الطف بي أو لي وأسألك لطفك; فمعناه: تولني ولاية خاصة, بها تصلح أحوالي الظاهرة والباطنة, وبها تندفع عني جميع المكروهات: من الأمور الداخلية والأمور الخارجية
, فالأمور الداخلية لطف بالعبد
والأمور الخارجية لطف للعبد
فإذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير وأعانه عليه فقد لطف به, وإذا قيض الله له أسبابا خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد, فيها صلاحه فقد لطف له.
ولهذا لما تنقلت بيوسف عليه الصلاة والسلام تلك الأحوال, وتطورت به الأطوار من رؤياه وحسد إخوته له وسعيهم في إبعاده جدا, واختصاصهم بأبيهم, ثم محنته بالنسوة, ثم بالسجن, ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة وانفراده بتعبيرها, وتبوئه من الأرض حيث يشاء, وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء والامتحان, ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار, وإزالة الأكدار وصلاح حالة الجميع, والاجتباء العظيم ليوسف عرف عليه الصلاة والسلام أن هذه الأشياء وغيره لطف الله لهم به,فاعترف بهذه النعمة
فقال: ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
أي: لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلا لذلك, وأهلا له, فلا يضعه إلا في محله, والله أعلم حيث يضع فضله, فإذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسر وسهل له طريق الخير, وذلل له صعابه وفتح له أبوابه ونهج له طرقه ومهد له أسبابه وجنبه العسر فقد لطف به, ومن لطفه بعباده المؤمنين أنه يتولاهم بلطفه فيخرجهم من الظلمات إلى النور, من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.
ومن لطفه: أنه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء, التي هذا طبعها وديدنها; فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى, ويصرف عنهم السوء والفحشاء, فتوجد أسباب الفتنة, وجواذب المعاصي, وشهواُت
الغي; فيرسل الله عليها برهاَن لطفه, ُ ونور إيمانهم الذي من به عليهم; فيدعونها مطمئنين لذلك .
ومن لطفه بعباده: أنه يقدر أرزاَقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم, فقد يريدون شيًئا وغيره أصلح; فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه; لطفا بهم وبراً وإحساناً
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)
(ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
ِ ومن لطفه بهم: أنه يقّدر عليهم أنواع المصائب, وضروب المحن والابتلاء
بالأمر والنهي الشاق; رحمة بهم ولطفا,
وسوًقا إلى كمالهم وكمال نعيمهم:
(وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
ومن لطيف لطفه بعبده إذ اّهله للمراتب العالية, والمنازل السامية −التي ِلا ُتدرك إلا بالأسباب العظام التي لا يدركها إلا أرباب الهمِم العالية, والعزائِم السامية− أن يقدر له في ابتداء أمره بعَض الأسباب المحتملة المناسبة للأسباب التي اهل لها; ليتدرج من الأدنى إلى الأعلى, ولتتمرن نفسه, ويصير له ملكة من جنس ذلك الأمر, وهذا كما
قَّدر لموسى ومحمد وغيرهما من الأنبياء −صلوات الله وسلامه عليهم− في ابتداء أمرهم رعاية الغنم; ليتدرجوا من رعاية الحيوان البهيم وإصلاحه إلى رعاية بني آدم ودعوتهم وإصلاحهم.وكذلك يذيق عبَده حلاوة بعض الطاعات; فينجذب ويرغب, ويصير له ملكة قوية بعد ذلك على طاعات أجل منها وأعلى, ولم تكن تحصل بتلك الإرادة السابقة, ِحتى وصل إلى هذه الإرادة والرغبة التامة.
ومن لطفه بعبده: أن يقدر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح والعلم ُوالإيمان, وبين أهل الخير; ليكتسب من أدبهم وتأديبهم, ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم, كما امتن الله على مريم في قوله تعالى:
(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ) آل عمران: ٣٧
إلى آخر قصتها.
ومن ذلك: إذا نشأ بين أبوين صالحين, وأقارب أتقياء, أو في بلد صلاح,أو وّفقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم, أو لتربية العلماء الربانيين; فإن هذا من أعظم لطفه بعبده, فإن صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة: منها, بل من أكثرها وأعظمها نفعا, هذه الحالة, ومن ذلك إذا نشأ العبد في بلد أهله على مذهب أهل السنة والجماعة فإن هذا لطف له. وكذلك: إذا قدر الله أن يكون مشايخه الذين يستفيد منهم −الأحياء منهم والأموات− أهل سنة وتقى; فإن هذا من اللطف الرباني, ولا يخفى لطف الباري
في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله −في أثناء قرون هذه الأمة− وتبيين الله به وبتلامذته من الخير الكثير, والعلم الغزير, وجهاد أهل البدع والتعطيل والكفر, ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات, فلا شك أن هذا من لطف الله لمن انتفع بها, وأنه يتوقف خير كثير على وجودها, فلله الحمد والمنة والفضل.
ومن لطف الله بعبده: أن يجعل رزقه حلالا في راحة وقناعة, يحصل بهً المقصود ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل, بل يعينه على ذلك ويفرغه, ويريح خاطره وأعضاءه, ولهذا من لطف الله تعالى ُلعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن فيها إدراك بغيته, فيعلمَ الله ُ تعالى أنها تضره وتصّده عما ينفعه; فيحول بينه وبينها, فيظل العبُدكارها ولم يدر أن ربه قد لطف به: حيث أبقى له الأمر النافع: وصرف عنه الأمر الضار, ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.
ومن لطف الله بعبده −إذا قدر له طاعة جليلة لا ُتنال إلا بأعوان−: أن
يقدر له أعوانا عليها ومساعدين على حملها, قال موسى عليه السلام:
(وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا) (35)
وكذالك امتن على عيسى بقوله ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
وامتن على سيد الخلق بقوله (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62
وهذا لطف لعبده خارج عن قدرته.
ومن لطف الله بالهاديين اذ قيض الله من يهتدي بهداهم ويقبل إرشادهم; فتتضاعف بذلك الخيراُت والأجور التي لا يدركها العبد بمجرد فعله, بل هي مشروطة بأمر خارجي.
ومن لطف الله بعبده: أن يعطي عبده −من الأولاد والأموال والأزواج− ما به تقر عينه في الدنيا, ويحصل له به السرور, ثم يبتليه ببعض ذلك, ويأخذه ويعوضه عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب, فنعمُة الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظم من نعمته عليه في وجوده, وقضاء مجرد وطره الدنيوي منه. وهذا أيضا خير وأجر خارج عن أحوال العبد بنفسه, بل هو لطف من الله له, قيض له أسبابا أعاضه عليها الثواب الجزيل, والأجر الجميل.
ً ومن لطف الله بعبده: أن يبتليه ببعض المصائب, فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها; فينيُله درجات عالية لا يدركها بعمله, وقد يشدد عليه الابتلاء بذلك,كما ُفعل بأيوب عليه السلام, ويوجد في قلبه حلاوة روح الرجاء ,وتأميل الرحمة,وكشف الضر,فيخفف ألمه,وتنشط نفسه,ولهذا من لطف الله بالمؤمنين: أن جعل في قلوبهم احتساب الأجر; فخّفت مصائبهم, وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته.
ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف: أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيماَنه, و ُتنقص إيقانه, كما أن من لطفه بالمؤمن القوي: تهيئَة أسباب
ِالابتلاء والامتحان ويعينه عليها, ويحملها عنه ويزداد بذلك إيمانه, ويعظم أجره, فسبحان اللطيف في ابتلائه وعافيته, وعطائه ومنعه.
ومن لطف الله بعبده: أن يسعى لكمال نفسه مع أقرب طريق يوصله إلى ذلك, مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه, فييسر عليه التعُّلم من كتاب أو معلٍم يكون حصول المقصود به أقرب وأسهل, وكذلك ييسره لعبادة يفعلها بحالة اليسر والسهولة, وعدم التعويق عن غيرها مما ينفعه, فهذا من اللطف.
ومن لطف الله بعبده: قدر الواردات الكثيرة, والأشغال المتنوعة,والتدبيرات والتعلقات الداخلة والخارجة, التي لو قسمت على أمة من الناس لعجزت قواهم عليها, أن يمن عليه بخلق واسع, وصدر متسع, وقلب منشرحٍ بحيث يعطي كَّل فرد من أفرادها نظرا ثاقبا, وتدبيرا تاما, وهو غير مكترث ولا منزعج لكثرتها وتفاوتها, بل قد أعانه الله تعالى عليها,ولَطف به فيها,ولَطف له في تسهيل أسبابها وطرقها.
وإذا أردت أن تعرف هذا الأمر فانظر إلى حالة المصطفى صلى االله عليه وسلم, الذي بعثه الله بصلاح الدارين, وحصول السعادتين, وبعثه مكملا لنفسه ومكملا لأمة عظيمة هي خير الأمم, ومع هذا مكنه الله ُ ببعضُ عمره الشريف في نحو ثلث عمره أن يقوم بأمر الله كله على كثرته وتنوعه, وأن يقِيم لأمته جميع دينهم, ويعلمهم جميع أصوله وفروعه, و ُيخرج الله ُبه أمة كبيرة من الظلمات إلى النور, ويحصل به من المصالح والمنافع, والخير والسعادة −للخاص والعام- مالا تقوم به أمه من الخلق
ومن لطف الله تعالى بعبده: أن يجعل ما يبتليه به من المعاصي سببا لرحمته,
فيفتح له عند وقوع ذلك باب التوبة والتضرع, والابتهال إلى ربه, وازدراء نفسه
واحتقارها, وزوال العجب والكبر من قلبه ما هو خير له من كثير من الطاعات.
ُ
ومن لطفه بعبده الحبيب عنده: إذا مالت نفسه مع شهوات النفس ُ الضارة, واسترسلت في ذلك; أن ينغصها عليه ويكدرها, فلا يكاد يتناول منها شيئا إلا
مقروًنا بالمكدرات, محشوا ُ بالغصص; لئلا يميل معها كل اَلميل,
كما أن من لطفه به أن يلذذ له التقربات, ويحلي له الطاعات; ليميل إليها كل الميل.
ومن لطيف لطف الله بعبده: أن يأجره على أعمال لم يعملها بل عزم عليها, ُ
فيعزم على قربة من الُقرب ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلها,
فيحصل له أجرها, فانظر كيف لطف الله به! فأوقعها في قلبه, وأدارها فيضميره, وقد علم تعالى أنه لا يفعلها; سوقا لبره لعبده وإحسانه بكل طريق.
وألطف من ذلك: أن يقيض لعبده طاعًة
أ َخرى غير التي عزم عليها, هي أنفع له منها; فيدع العبُد الطاعة التي ُترضي ربه لطاعة أخرى هي أرضى الله منها,
َّفتحصل له المفعولة بالفعل والمعزوم عليها بالنية, وإذا كان من يهاجر إلى الله
ورسوله,ثم يدركه الموُت قبل حصول مقصوده قدوقع أجره على الله−مع أن
قطع الموت بغير اختياره− فكيف بمن قَطعت عليه نيَته الفاضلة طاعٌة قد عزم
ِ على فعلها? !وربما أدارا ُالله في ضمير عبده عدةطاعات,كل طاعة لو انفردت
لفعلها العبد; لكمال رغبته, ولا يمكن فعل شيء منها إلا بتفويت الأخرى
فيوفقه للموازنة بينها, وإيثار أفضلها فعلا مع رجاء حصولها جميعها عزما ونية.
وألطف من هذا: أن يقدر تعالى لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية,ويوفر له دواعيها, وهو تعالى يعلم أنه لا يفعلها; ليكون تركه لتلك المعصية التي توَفرت أسباب فعلها من أكبر الطاعات, كما لطف بيوسف عليه السلام في مراودة المرأة,
وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال:إني أخاف الله .
ومن لطف الله بعبده: أن يقدر خيرا
وإحسانا من عبده, و يجريه على يد
عبده الآخر, ويجعله طريقا إلى وصوله للمستحق, فيثيب االله ُ الأول والآخر.
ومن لطف الله بعبده: أن ُيجري بشيء من ماله شيئا من المنافع وخيرا لغيره; فيثيبه من حيث لا يحتسب, فمن غرس غرسا, أو زرع زرعا فأصابت منه روح من الأرواِح المحترمة شيًئا آجر الله ُ صاحبه ًوهو لا يدري! خصوصا إذا كانت عنده نية حسنة, و عقد مع ربه عقدا في أنه مهما َترتب على ماله شيء من النفع, فأسألك يا رب أن تأجرني, وتجعله قربة لي عندك, وكذلك لو كان له بهائم انتفع بدرها وركوبها والحمل عليها, أو مساكن انتفع بسكناها ولو شيئا قليلا ,أوما عون ونحوه انتفع به, أوعين ُشرب منها,وغيرذلك−ككتاب انتفع به فيتعلم شيء منه,أومصحف ُقرئ فيه−والله ذو الفضل العظيم.
ومن لطف الله بعبده: أن يفتح له بابا من أبواب الخير لم يكن له على بال, وليس ذلك لقلة رغبته فيه, وإنما هو غفلة منه, وذهول عن ذلك الطريق, فلم يشعر إلا وقد وجد في قلبه الداعي إليه, واللافت إليه; ففرح بذلك, وعرف أنها من ألطاف سيد هو طرقها لتيقيض وصولها إليه;فصرف لها ضميره,ووجه إليها فكره, وأدرك منها ما شاء الله وفتح .
— من كتاب المواهب الربانية في الآيات القرانية للسعدي رحمه الله