.
وفي داخل هذا النوع من الجبر جبرٌ آخر خاص:
(ويجبر جبراً خاصاً قلوب الخاضعين لعظمته، وقلوب المحبين له، الخاضعين لكماله، الراجين لفضله ونواله).
.
أي أنه تعالى يَجبر قُلوب المؤمنين، فترى أنَّ قلوب الخاضعين لعظمته مجبورةً عن الدنيا،
فكل ما حصل نقص ترى أثره سريعًا، يعني يقع في قلوبهم شعورهم بالنقص في الدنيا
ثم يُجْبَر مُباشرة، ويَرمُد، .
.
إلى أن يَكمل قوة تعلقهم بالله، فيصبح إقبال الدنيا عليهم
أو ذهابها سواءً في نفوسهم.
.
انظر لهؤلاء عندما تقع عليهم المصائب، وعندما يقع عليهم نقص في أموالهم وأولادهم وثمراتهم،
انظر لهؤلاء كيف تكون قلوبهم، تجدها مجبورة،
.
ماذا يعني ذلك؟
يعني الآلام فيها خفيفة وتذهب بذكر الله، ليس لأن ما عندهم إحساس،
ليس لأن أولادهم هؤلاء لا قيمة لهم، ليس لأن أزواجهم لا قيمة لهم،
.
إنما لأن الله عندما أخذ منهم هذه الأمور المحبوبة أنزل مع الأخذ الجبر،
فجَبَرَ قلوبهم عن النقص الذي حصل في حياتهم، فَسَكَنَت آلامهم.
.
وهذا هو المعنى العظيم لمعنى التصبّر
أي أنك لو ابتدأت بالصبر على المصيبة، سيقابلها من الله عطاء أن يجبر قلبك على ما أصابك،
.
وإذا بقيت تُشْعِل في نفسك نار النقص، وتُذكِّر نفسك بالنقائص، فهذا الجبر لا يأتيك،
وتبقى دائماً شاعراً بالنقص.
.
ولذلك ترى الفوارق بين الناس، فهناك أناس مِن أول ما تنزل عليهم المصائب
يلجؤون إلى الجبار فيجبر قلوبهم، وهناك أناس متوسطون، فمع مرور الأيام والليالي عليهم
كأن قلوبهم حصل لها الجبر،
.
أما القسم الثالث فتجدهم بعد سنين ولازالت آلامهم كما هي.
ماذا فعل هؤلاء القوم في أنفسهم؟
ما رضوا عن الله فما أرضاهم الله عنه!
ويبقى الألم من أوله كالآخر.
.
قد يقول قائل أنه أحيانا لا يكون الألم طوال الوقت لكن بعد سنة أو سنتين
أتذكر فيحصل لي ألم؟
نقول: لا بأس، فحتى هذا ورد في النص،
.
فأنت الآن لو صبرت، يأتي الشيطان لك بكل الصورة التي مضت،
وتجد نفسك تدخل في آلام، وتصبح في حال بكاء، نقول بأن تصبّرك هنا نوع من أنواع العبادة،
لأن الشيطان مِن أهم مقاصده {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا }
.
وهناك فرق بين أنك تُعَيِّشْ نفسك حالة الآلام ، وبين أن يأتي الشيطان بهذا الفِكْر لك
فيكون ردك الصبر، فرق بين الحالتين،
والنساء
أكثر الناس تعرضًا لهذه الحالة -حالة بقاء استجرار الآلام-
.
هل تعرفون ماذا يفعل الجَمَلْ في أكله؟!
يَسْتَجِر ويأتي به مرة أخرى، وهناك كثير من النساء يعيشون بهذه الطريقة،
.
عاشت آلام ثم يتسلط عليها الشيطان فيجعلها تعيش دائماً تحت ظل نقائصها وآلامها،
مع أن الله يفتح لها بهذه الآلام أبوابًا من الأجور إذا صبرت،
.
ويفتح لها أيضا باب الجبر لقلبها إذا طلبت مِن الله أن يجبرها.
هناك ميل في النفوس للشعور بالظلم،
.
كأن هذه الأقدار وقع فيها نوع ظلم، نحن لا نقول هذا الكلام بلسان مقالنا،
لكن بلسان حالنا كأننا ندّعي على الله بأنه ظلمنا ببقاء الأحزان متصلة،
وأنتم تعلمون أن الله {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}
.
فاعلم أن ما أصابك في وسعك احتماله. جبر القلوب هنا يكون بماذا ؟
(بما يفيضه على قلوبهم من المحبة وأنواع المعارف والتوفيق الإلهي والهداية والرشاد)،
هذا نوع جبر خاص، أولاً يجبر قلوبهم بالانشغال عن النقائص، بالانصراف عنها،
.
فما يشعرون أن هناك شيئًا ينقصهم، فيُجبرون عن التعلق بالنقائص،
تنصرف قلوبهم، أي تنجبر نقطة النقائص عندهم، بما يفيضه على قلوبهم
من المحبة لله سبحانه وتعالى، فتجد قلوبهم مجبورة عن الدنيا
بمحبة الله والتعلق به، ورؤية أنه من أجل رضاه تُباع الدنيا.
.
أيضاً يَجبر قلوبهم بأنواع المعارف، وهذا الأمر يذوقه طلبة العلم،
فيجدون لذائذ في الطَّلب تبرّد قلوبهم وتَشرح صدورهم عمّا ينقصهم في الدنيا،
.
ففي كثير من الأحيان تجد أنَّ الحياة الخاصة لطلبة العلم ليست مستقرة تماماً،
لكن مِن جَبر الله لهم أن علّمهم عنه، وفهّمهم عنه، وحبّب لهم العلم،
فيجدون فيه من اللذائذ ما تغنيهم عما نقصهم من أنواع الاستقرار.
.
أيضاً الدعوة إلى الله، من أنواع المعارف أن تعرف فيكون منك دعوة إلى الله،
والدعوة إلى الله نوع من أنواع الجبر، لأنك عندما تدعو إلى الله تجد قومًا يشتكون لك نَفس حالك،
فتجد نَفسَك تكلمهم تُصبرهم، وكأن تصبيرك لهم تصبيراً لنفسك،
وهذا نوع من أنواع الجبر، لأن أقرب أذن سامعة للمتكلم هي أذنه.
.
أيضاً من أنواع الجبر بهذا العلم: أن الله عز وجل عندما يفتح لك بابًا من العلم
وأنواعًا من المعارف تستحقر الناقص عندك فتراه ليس بشيء، بل مع الأيام ترى
.
هذا الناقص فتحًا للكمال، فالعلم والدعوة كلها نوع من أنواع الجبر مِن الله عز وجل لعباده.
ومنها الرفعة عنده، أي تُجبر بها وترتفع عنده، يجبرك الله بما علّمك، وترتفع عنده بهذا العلم أيضاً.
.
كذلك يجبر الله عز وجل القلوب بما يفيضه من التوفيق الإلهي والهداية والرشاد.
والمقصود بالهداية والرشاد الدلالة، أي أنه يجبرك بأن يدلّك على الصواب،
.
أيضا يجبرك بالتوفيق الإلهي، فكلما رضيت عن الله وتقربت إليه وقَبِلْت منه كلما
كان سَمعُك الذي تسمع به، وبَصرك الذي تُبصر به، ويدك التي تَبطش بها،
فهذا كله نوع من أنواع التوفيق الإلهي الذي نرجوه.
.
فكلما زدت تعلقاً بالله وكلما نقصت عليك الدنيا، كان نقص الدنيا عطاءً منه سبحانه وتعالى،
لأنه سيجبر نقص الدنيا لك بتوفيقه، سيجبر نقص الدنيا لك بأنواع من المعارف،
سيجبر نقص الدنيا لك بأن يوقع في قلبك حبه، من أجل ذلك لو تبينت لك الحقيقة
ستأتي اللحظة التي تتمنى فيها أن تنقص الدنيا لكن تُجبر هذا الجبر.
بقلم/أ.أناهيد السميري..حفظها الله بحفظه