السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
أنزل الله تعالى على رسله تشريعات لإصلاح البشر، سواء في ناحية الاعتقاد، أو في ناحية العبادة، أو في ناحية المعاملات، وعبر تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانت العقيدة المنزَّلة عقيدة واحدة، قوامها الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، فقد اتَّفقت في ذلك رسالات الأنبياء والرسل جميعًا.
أما في جانب العبادة والمعاملات وما يتعلق بهما من تشريعات، فقد اختلفت من رسالة إلى أخرى، وإن كانت واحدة في أسسها ومقوماتها الأساسية، وضوابطها الأخلاقية العامة.
ومن هنا نقول: إن كل شريعة كانت تنسخ الشريعة التي سبقتها، كما في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نسخت رسالات الأنبياء السابقين جميعًا، وأصبحت هي الشريعة المهيمنة على ما قبلها من شرائع الأنبياء.
قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].
ومن هنا، فقد وقع النسخ على مستوى الشرائع المختلفة.
وكذلك وقع النسخ في الأحكام في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم على مستوى المراحل المختلفة من رسالته صلى الله عليه وسلم، فقد نُسخت بعض الأحكام في مراحل سابقة بأحكام أخرى في مراحل لاحقة، حتى تمت الرسالة، وأكمل الله الدين بقوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
كانت فترة النسخ - إذًا - هي الفترة التي كان القرآن ينزل فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، أصبحت الشريعة مستقرة، وعُرف الناسخ والمنسوخ، ولم يعد لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هذا منسوخ أو غير منسوخ، إلا بدليل.
وفي بحثنا حول الناسخ والمنسوخ في القرآن نتناول في مطالب ما يلي:
المطلب الأول: تعريف النسخ وشروطه وما يقع فيه.
المطلب الثاني: أهمية النسخ، وما يعرف به، وأدلة ثبوته.
المطلب الثالث: أقسام النسخ.
المطلب الرابع: الناسخ والمنسوخ من القرآن.
♦ ♦ ♦ ♦
المطلب الأول: تعريف النسخ وشروطه وما يقع فيه
يعرف النسخ لغة بمعانٍ؛ منها:
النسخ بمعنى: الإزالة، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ﴾ [الحج: 52].
والنسخ بمعنى: التبديل، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ [النحل: 101].
ويأتي النسخ بمعنى: النقل من موضع إلى موضع، ومنه: نسخت الكتاب، إذا نقلت ما فيه حاكيًا للفظه وخطه.
ويأتي النسخ بمعنى: التحويل؛ مثل: التناسخ في المواريث، وهو يعني تحويل الميراث من واحد إلى واحد.
ويأتي النسخ بمعنى الكتابة، قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29]؛ أي: نكتب ما كنتم تعملون.
وأما النسخ في الاصطلاح:
فقد عرف النسخ تعريفات متقاربة؛ منها:
1- النسخ هو: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا، مع تراخيه عنه.
2- النسخ هو: الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي، مع التأخير عن مورده.
3- النسخ هو: رفع حكم شرعي بمثله، مع تراخيه عنه.
4- النسخ هو: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.
5- النسخ هو: رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي.
ومن هذه التعريفات يتبين أن رفع البراءة الأصلية - الإباحة لعدم ورود الدليل المانع - ليس من النسخ؛ إذ النسخ ينطبق على حكم متقدم بخطاب متقدم جاء النسخ بتغييره،
كذلك لا يعد رفع الحكم الشرعي بموت أو جنون نسخًا.
6- وقيل في تعريف النسخ: إنه بيان انتهاء زمان الحكم الأول.
وهذا هو تعريف الإمام ابن حزم الذي لا يرى في النسخ إلغاء، بل بيانًا لانتهاء الحكم الأول، وهو في هذا يوافق رأي الشافعي الذي يرى أن النسخ بيان للأحكام.
والناسخ هو الله تعالى؛ لأنه هو منزل الخطاب أولاً، وهو ينسخه بخطاب جديد، قال تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 106].
كما يطلق الناسخ على الحكم الناسخ نفسه، أو على الآية الناسخة.
والمنسوخ هو الحكم المرفوع أو الآية المرفوعة حسب نوع النسخ، كما سيأتي.
شروط النسخ:
وللنسخ شروط؛ منها:
1- أن يكون الحكم المنسوخ شرعيًّا.
2- أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخرًا عنه، فإن المقترن يسمى تخصيصًا؛ مثل: الشرط، والصفة، والاستثناء.
3- ألا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدًا بوقت معين، وإلا فالحكم ينتهي بانتهاء وقته، ولا يعد انتهاء الحكم بانتهاء وقته نسخًا.
وعلى هذا؛ فقول الله تعالى: ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109] ليس من المنسوخ؛ لأنه حكم مقيد بظرف معين، وهو حال الاستضعاف والقلة، فلا يعد الأمر بالقتال نسخًا للآية.
4- أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه.
5- أن يكون مما يجوز نسخه، فلا يدخل النسخ في التوحيد وأسماء الله وصفاته، وغير ذلك مما هو داخل في باب العقائد.
ما لا يقع فيه النسخ:
لا يقع النسخ في الأخبار والقصص، ولا يقع في مسائل الاعتقاد وأصول العبادات وأصول المعاملات؛ وإنما يقع النسخ في الأمور الفرعية من الشريعة، وهو بهذا يتعلق بالأمر والنهي وما يكون في معناهما؛ مثل: الأخبار الدالة على متعلق الأمر والنهي، أما الأخبار التي تتعلق بأسماء الله وصفاته ووصف الجنة والنار وغيرها مما لا يدخل في التشريع، فلا يدخل فيه النسخ.
♦ ♦ ♦ ♦
المطلب الثاني: أهمية معرفة النسخ، وما يعرف به، وأدلة ثبوته
لمعرفة الناسخ من المنسوخ أهمية كبيرة عند العلماء من الأصوليين والمفسرين والفقهاء؛ وذلك حتى لا تختلط الأحكام، وقد وردت آثار كثيرة في الحث على معرفة الناسخ والمنسوخ، وإن كان معنى الناسخ عند الصحابة والتابعين من المعنى الاصطلاحي الذي أوردناه آنفًا.
عن علي قال لقاضٍ: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت[1]، وعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269] قال: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحرامه وحلاله[2].
ولكن كيف يعرف الناسخ من المنسوخ؟
يقول أبو محمد بن حزم: "لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن أو السنة بأنه منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64]، وقال تعالى: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 3]، فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه، ففرضٌ اتباعُه، فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله"[3].
ومن هذا الكلام يتضح أن النسخ يعرف بطرق محددة؛ هي:
1- النقل الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي شهد مواقع التنزيل؛ وذلك مثل:
• قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تُرِقُّ القلب، وتُدمع العين، وتُذكِّر الآخرة))[4].
• ومثل قول أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلهم المشركون: "ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفع"[5].
• ومثل قول عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أُنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرِّمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"[6].
فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن؛ أي: كانوا يقرؤونهن حتى قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- الإجماع على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ، ولو تتبعنا الآيات التي ادعي فيها النسخ، لوجدناها جميعًا لم تجمع الأمة على أن آية ما من القرآن منسوخة؛ وإنما هي آراء لبعض الفقهاء والعلماء ويخالفهم فيها آخرون، أما الإجماع على نسخ آية مما في المصحف، فلم يقع.
3- معرفة المتقدم من المتأخر مع عدم إمكان الجمع بينهما، أو التوفيق بينهما، أو تأويل إحداهما لتوافق الأخرى، ولا يعتمد في النسخ على الاجتهاد ولا أقوال المفسرين أو تعارض الأدلة بادي الرأي، أو تأخر إسلام أحد الراويين، أو غير ذلك مما يستدل به البعض على نسخ آية أو أخرى.
والناس في موقفهم من النسخ على أقسام أربعة:
أولاً: اليهود:
وهم ينكرون وقوع النسخ؛ وذلك لأنه في نظرهم يستلزم البداء على الله تعالى - وهو ظهور العلم بعد خفائه - وهو محال على الله تعالى، ويقولون: إن النسخ إما أن يكون لحكمة أو لغير حكمة، والثاني باطل، والأول: يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البداء وسبق الجهل، وهو محال على الله تعالى.
واستدلالهم باطل؛ لأن كلاًّ من حكمة الناسخ والمنسوخ معلوم لله تعالى من قبل، فلم يتجدد علمه بها، وهو سبحانه ينقل العباد من حكم إلى حكم لمصلحة معلومة له من قبل بمقتضى حكمته وتصرفه في ملكه.
وشريعة موسى نفسه عليه السلام وقع فيها النسخ، فقد جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، التي كانت حلالاً لبني إسرائيل، وهو محض النسخ الذي ينفونه، قال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [النساء: 160]، فالآية صريحة في وقوع النسخ في شريعة اليهود.
ثانيًا: الرافضة:
وهؤلاء غلوا في إثبات النسخ، فاستدلوا على ذلك بأقوال لا تثبت نُسبت لعلي بن أبي طالب زورًا وبهتانًا، كما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]، على معنى أنه سبحانه وتعالى يظهر له المحو فيمحو، ويظهر له الإثبات فيثبت، وكلامهم في هذا باطل قطعًا؛ لأنه هو البداء الذي يعتقدونه، ولا يقول به مسلم.
ثالثًا: بعض العلماء يجيز وقوع النسخ عقلاً، ولا يجيز وقوعه شرعًا:
ومن هؤلاء أبو مسلم الأصفهاني الذي اشتهرت هذه المقولة عنه، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، على معنى أن آيات القرآن لا تَبطُل أبدًا، ويحمل آيات النسخ على التخصيص، كما يستدل على ذلك بأن كل ما اشتمل عليه القرآن شريعة أبدية باقية إلى يوم القيامة، وبهذا لا يكون نسخ، كما يستدل على ذلك بأن كل ما اشتمل عليه القرآن كلي لا جزئي خاص، وفيه بيان الشريعة بطريق الإجمال، والمناسب لذلك ألا يدخله النسخ.
وهو نفس موقف ابن حزم، الذي يرى أن النسخ تخصيص في الزمان، فالنص العام عند ابن حزم: عام من حيث اللفظ وعام من حيث الزمان، والنسخ تخصيص العام بزمن ينتهي فيه العمل به، ويبدأ بالنص الجديد الناسخ حكم لزمن جديد يبدأ من نزول الناسخ أو المخصص على رأي ابن حزم.
رابعًا: قول جمهور العلماء:
وهم يرون جواز النسخ عقلاً ووقوعه شرعًا، وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة؛ منها:
1- قول الله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 106].
2- قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 101].
3- قوله تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144].
ففي هذه الآية نسخ لحكم الصلاة إلى بيت المقدس بالصلاة إلى قِبلة جديدة، هي بيت الله الحرام.
4- في الصحيحين قول أنس رضي الله عنه في قصة أصحاب بئر معونة: ونزل فيهم قرآن قرأناه، ثم نُسخ بَعْدُ: (بلِّغوا عنا قومنا، أن قد لقينا ربنا، فرضيَ عنا ورضينا عنه)[7].
5- أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض، فله أن يأمر بالشيء في وقت وينسخه في وقت آخر بالنهي عنه، وهو أعلم بمصالح عباده.
♦ ♦ ♦ ♦
المطلب الثالث: أقسام النسخ
ينقسم النسخ إلى أقسام باعتبارات متعددة:
فمن حيث صراحة النسخ من عدمه ينقسم إلى:
1- نسخ صريح.
2- ونسخ ضمني.
ومن حيث اعتبار الناسخ والمنسوخ ينقسم إلى:
1- نسخ القرآن بالقرآن.
2- نسخ القرآن بالسنة.
3- نسخ السنة بالقرآن.
4- نسخ السنة بالسنة.
وأما نسخ القرآن بالقرآن أو نسخ القرآن بالسنة، فينقسم إلى أقسام:
1- نسخ التلاوة والحكم معًا.
2- نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
3- نسخ التلاوة وبقاء الحكم.
ومن حيث اعتبار البدل فينقسم النسخ إلى:
1- نسخ إلى بدل.
2- نسخ إلى غير بدل.
وأما النسخ إلى بدل فينقسم إلى:
1- نسخ إلى بدل أخف.
2- نسخ إلى بدل مماثل.
3- نسخ إلى بدل أثقل.
وهذا ما نتناوله في الفروع التالية.
♦ ♦ ♦ ♦
الفرع الأول: النسخ من حيث صراحته
ينقسم النسخ من حيث صراحته إلى نسخ صريح ونسخ ضمني:
1- النسخ الصريح:
وهو الذي يصرح فيه بإنهاء الحكم المنسوخ.
ومن النسخ الصريح قول الله تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، وذلك بعد قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142]، ففيها تصريح بالقِبلة الأولى، وعلى هذا فالنسخ في هذا الموضع من النسخ الصريح، ويمثل له العلماء كذلك بمثال من السنة النبوية في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تُرِقُّ القلب، وتُدمع العين، وتُذكِّر الآخرة))[8]، فالنسخ في هذا الموضع صريح.
2- النسخ الضمني:
وهو أن يتعارض نصان ولا يمكن التوفيق بينهما، بأن يتواردا على موضوع واحد سلبًا وإيجابًا، ولا يمكن الجمع بينهما، وقد علم تاريخهما، فإن المتأخر منهما ينهي حكم المتقدم.
ومن أمثلته نسخ آية المواريث: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11] للوصية لوارث التي يشتمل عليها قول الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180].
وهذا القسم من النسخ يشتمل على نوعين:
أ- نسخ لكل الأحكام التي اشتمل عليها النص المتقدم:
وقد ذكر العلماء مثالاً لذلك قول الله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102]، في الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، نُسخت بقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16] نسخًا جزئيًّا، وذلك بأن يخرج من النص المتقدم ما يشمله النص المتأخر، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النور: 6، 7] نسخت عموم قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4]، فإن الآية الثانية بيَّنت حكم القذف عمومًا، وأخرجت الآية الأولى ما يكون من قذف الزوج لزوجته، ويرى بعض أهل العلم أن هذا ليس نسخًا؛ وإنما هو تخصيص للعام.
♦ ♦ ♦ ♦
الفرع الثاني: أقسام النسخ باعتبار الناسخ والمنسوخ
ينقسم النسخ باعتبار الناسخ والمنسوخ إلى:
1- نسخ القرآن بالقرآن:
وهذا القسم متفق على جوازه عقلاً ووقوعه شرعًا من القائلين بالنسخ وهم الجمهور، قال في الإتقان: النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب:
أحدها: ما نسخ تلاوته وحكمه معًا:
ومثاله: قالت عائشة: "كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات يحرمن، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن"[9]، قال مكي: هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو، والناسخ - أيضًا - غير متلو، ولا أعلم له نظيرًا.
الضرب الثاني: ما نسخ حكمه دون تلاوته:
فإن قلت: ما الحكمة في نسخ الحكم مع بقاء التلاوة؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليعرف منه الحكم والعمل به، يتلى - كذلك - لكونه كلام الله، فيثاب المرء عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
الثاني: أن النسخ يكون غالبًا للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيرًا بالنعمة ورفع المشقة.
الضرب الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه:
ومنه ما روي عن زر بن حبيش قال: قال لي أُبيُّ بن كعب: كأي تعد سورة الأحزاب؟ قال: قلت: اثنتين وسبعين آية أو ثلاثًا وسبعين آية، قال: فوالذي يحلف به أُبي، إن كانت لتعدل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها آية الرجم، قلت: وما آية الرجم؟ قال: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما أَلْبَتَّةَ نكالاً من الله، والله عزيز حكيم)، فرفع فيما رفع[10]، [11].
2- نسخ القرآن بالسنة:
وتحت هذا القسم نوعان:
الأول: نسخ القرآن بالسنة الآحادية، والجمهور على عدم جوازه؛ لأن القرآن متواتر بيقين، وهو يفيد اليقين، والآحادي ظني، ولا يصح رفع المتيقن بالمظنون.
الثاني: نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وقد منع منه الشافعي، وأجازه الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية؛ لأن الكل في نظرهم وحي.
وكذلك منع منه الظاهرية وأحمد في الرواية الثانية عنه، قالوا: يقول الله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 106]، والسنة ليست خيرًا من القرآن ولا مثله، فعلى هذا لا تنسخ القرآن ولو كانت متواترة.
وهذا الرأي في نظرنا هو الرأي الأصوب، فالسنة قد تكون مخصصة لعموم القرآن أو مقيدة لمطلقه، ولكنها لا تكون ناسخة له.
3- نسخ السنة بالقرآن:
وهو قول الجمهور، فالتوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسنة، وليس في القرآن ما يدل على القِبلة الأولى من حيث تعيينها قبلة للمسلمين بعد الهجرة، وإنما عينت بفعل الرسول عندما هاجر، فثبت أن التوجه إليها كان بالسنة، وقد نسخ بقوله تعالى: ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 144].
4- نسخ السنة بالسنة:
وتحت هذا القسم أربعة أنواع:
أ- نسخ سنة متواترة بسنة متواترة.
ب- نسخ سنة آحاد بسنة آحاد.
جـ- نسخ سنة متواترة بسنة آحاد.
د- نسخ سنة آحاد بسنة متواترة.
♦ ♦ ♦ ♦