الطريقُ إلى دابق و مفاجآت تسر العاشق للتاريخ
انطلقتُ و صاحبي أبو أحمد -راعي دابق - نقطع الفيافي متجهين لهذه البلدة التي أحببتها من قبل أن أراها
و صرتُ في طريقي لها أسألهُ عن سكان هذه البلدة …
فأخبرني بأن غالب سكانها هم من قبيلة النعيم العربية و كانوا يسكنون بادية حمص من قديم الزمان
و أنهم وفدوا دابق بعد المذبحة الشهيرة التي أقامها الموالي -قبيلة معروفة أيضا- لأعيان قبيلة النعيم في غدرة تحدث الناس عنها زمانا … و ذلك أن الموالي قد أقاموا دعوة كبيرة للصلح مع قبيلة النعيم و توجوها بحفلة طعام كبيرة و في أثناء هذه الجلسة التصالحية هجم رجال الموالي على النعيم العزل من السلاح فأبادوهم …
فلما تسامعت نساء النعيم بهذه الغدرة خرجوا هاربين منتشرين في القرى و المدن طالبين الحماية من القبائل الأخرى … فانتقلت امرأة مشهورة عندهم مع ابنيها هائمين على وجوههم حتى وصلوا دابق و سكنوها …
الطريق إلى دابق و تبدو الجبال الجميلة و هي حدود طبيعية تفصل بين تركيا و سوريا
ثم مررنا على قرية احتيملات الزراعية و قد تأكد لي بالفعل كلام الناس الذي قالوا لي إن الوصول لدابق تحتاج معه إلى مرافق من أهل البلد!
ثم وصلنا إلى مشارف بلدة دابق و هناك وجدتُ أيضا ما أخبرتكم عنه آنفا من وجود التلل الصناعية في هذه الديار …
سبب قصدي لدابق و ماذا وجدتُ هناك؟؟
يرجع اهتمامي في هذه البلدة لسببين :
1-حبي و شغفي بقراءة تاريخ الدولة العثمانية و من خلال قراءتي المتواضعة هذه علمتُ أن العثمانيين دخلوا البلاد العربية بعد معركة كبيرة وقعت في المرج التابع لقرية دابق في عام 1516 ميلادي و قد انتصر فيها العثمانيون على المماليك الحاكمين لبلاد مصر و الشام و ما يتبعها من ولايات و أقضية …
فآلت هذه الديار جميعها بعد هذه المعركة إلى العثمانيين و سهلت عليهم الوقوع تحت سيطرتهم وحكمهم
2- كما إني في شهر فبراير و هو الشهر الثاني عام 2004 من تاريخ النصارى زرتُ القاهرة و الإسكندرية و هناك تعرفت و من خلال المباني التاريخية العظيمة على شخصية كبيرة حكمت مصر زمانا خلال فترة حكم المماليك و يدعى هذا السلطان الحاكم قانصوه الغوري … و من خلال قراءتي عنه علمتُ أنه قد قتل في معركة مرج دابق خلال حربه مع العثمانيين!
و عندها تحركت بي الرغبة لزيارة هذا المرج و الاطلاع عليه و تحقيق متعة تاريخية بمشاهدة هذه الأرض الحمراء
مرج دابق ( المرج هو السهل الأخضر ) … صعدتُ تلة و يبدو أنها صناعية لكني و عند وصولي للبلدة اكتشفت هناك أمورا هي أهم من هذه الغاية التي سعيتُ لها … فماذا اكتشفت؟؟؟
سأختصر لكم ما اكتشفته عن هذه البلدة الجميلة
أولا:
اكتشفتُ قبر الخليفة الأموي الشهير سليمان بن عبد الملك رحمه الله تعالى و هو أكثر الأمويين بركة على أمة الإسلام ففي عهده زال الحجاج الظالم و أخرج الناس من السجون و هو الذي عهد بالخلافة من بعده لابن عمه عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى …
كان عاقلا فصيحا طموحا للفتوح. سير أخاه مسلمة بن عبد الملك لحصار القسطنطينية وجهز له أسطولا كبيرا.
و في عهده فتحت جرجان وطبرستان، وكانت في أيدي الترك، فاستردها المسلمون من أيديهم.
و أما سبب وجود قبر هذا الخليفة الأموي فهو أنه قد عسكر في بلدة دابق هذه وعزم و قيل حلف أن لا يرجع حتى يفتح القسطنطينية أو تؤدي الجزية إليه ….
فشتى بدابق شتاءً بعد شتاءٍ إذ ركب ذات عشية من يوم جمعة فمرَ بالتل الذي يقال له تلّ سليمان اليوم فرأى عليه قبراً فقال: من صاحب هذا القبر؟
قالوا: هذا قبر عبد الله بن مُسافع بن عبد الله الأكبر بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العُزى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصَي بن كلاب القرشي الحجَبي…
فقال سليمان: ياويحه لقد أمسى قبره بدار غربة
قال: ومرض سليمان في أثر ذلك ومات ودفن إلى جانب قبر عبد الله بن مسافع في الجمعة التي تليه.
ثم أخبرني الرجل و هو القائم على هذه التلة بأن قبر سليمان بن عبد الملك و عبد الله بن مسافع رحمهما الله تعالى موجودين في الداخل …
فبادرت الدخول لمشاهدة القبرين و تطبيق سنة زيارة الأموات و الدعاء لهم
رحمهم الله تعالى و جزاهم عن الإسلام و المسلمين خير الجزاء
وقال الحارت بن الدؤلي:
أقول وما شأني وسعد بن نَوْفَـل **** وشأن بكائي نوفل بن مُساحـق
ألا إنما كانت سوابـق عَـبْـرة ******على نوفل من كاذب غير صادق
فهلآ على قبر الولـيد وبـقـعة ***** وقبر سليمان الذي عنـد دابـق
وقبر أبي عمرو وقبر أخيهـمـا **** بكيت لحزن في الجوانح لاصق
ثانيا:
و اكتشفت أيضا في هذه البلدة وجود مسجد قديم جدا فيها يعود تاريخه إلى عام 96 هجري و يسمى بمسجد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى …
و علمتُ أن هذا الخليفة العادل رحمه الله تعالى قد استلم الخلافة في هذا المسجد العتيق!
فقد كان رحمه الله مرافقا للخليفة الأموي الشهير سليمان بن عبد الملك رحمه الله تعالى في مرابطته في دابق…
و إليكم قصة استلام هذا الخليفة للحكم في دابق …
في عام 99 للهجرة مرض سليمان بن عبد الملك فكتب الخلافة لبعض بنيه وهو غلام صغير..
فقال له رجاء بن حيوة : ما تصنع يا أمير المؤمنين ! إنما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح
فاستخار سليمان الله ، ثم دعا رجاء بن حيوة فقال له : ماذا ترى في داوود بن سليمان ؟
فقال : هو غائب عنك في القسطنطينية و أنت لا تدري أحي هو أو ميت ! فقال له سليمان : فمن ترى ؟
قال : رأيك يا أمير المؤمنين - وهو يريد أن ينظر من يذكر - .
فقال سليمان : كيف ترى عمر بن عبد العزيز ؟ قال : أعلمه و الله خيراً فاضلاً مسلماً..
فقال سليمان : هو و الله على ذلك ، والله لئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة ، فكتب :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتابٌ من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز ، إني قد وليتك الخلافة من بعدي ، ومن بعده يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا ، و اتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم ))
فدخلوا على سليمان و سمعوه وبايعوه رجلاً رجلاً ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء بن حيوة .
قال رجاء : فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال : أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئاً من هذا الأمر؟
فأنشدك الله وحرمتي و مودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى استعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه !
قال رجاء : لا و الله ما أنا بمخبرك حرفاً ؛ قال : فذهب عمر غضبان.
خرج رجاء بن حيوة بعد أن قبض الله سليمان ونادى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته وجمع أهل بيت سليمان في مسجد دابق فاجتمعوا
فقال : بايعوا ، فقالوا : قد بايعنا مرة قال : وأخرى هذا عهد أمير المؤمنين فبايعوا
فلما أحكم رجاء بن حيوة الأمر قال : قوموا إلى صاحبكم فقد مات.. قالوا : إنا لله و إنا إليه راجعون
و قرأ الكتاب عليهم .
تغيرت وجوه بني مروان ، ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز وهو في مؤخر المسجد، ولم تحمله رجلاه فأصعدوه على المنبر
فسكت حيناً ، فقال رجاء بن حيوة : ألا تقوموا إلى أمير المؤمنين فتبايعوه ، فنهض القوم فبايعوه فخطب الناس خطبةً بليغة.
فحمد الله و أثنى عليه ثم قال :
(( أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن ، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ألا و أني لست بفارضٍ و لكني منفذ ، و لست بمبتدع ، ولكني متبع ، ولست بخير من أحدكم ، ولكني أثقلكم حملاً ، وإن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ، ألا لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق )) (27).
ثم نزل ، فأخذوا في جهاز سليمان فصلى عمر بن عبد العزيز عليه ودفن بدابق ، ثم أتي بمراكب الخلافة
وهي تنشر في الأرض رجة فقال : ما هذا ؟ فقيل : مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها !
فقال : ما لي ولها ، نحوها عني قربوا إلى بغلتي ، فقربت إليه بغلته فركبها وانصرف مع الناس ثم مالوا به إلى دار الخلافة فأبى النزول بها قائلاً : لا أنزل إلا في منزلي …
فهذه قصتها التي تعلمتها بعد زيارتي لهذه البلدة …
و أما ثالث الأشياء التي تعلمتها و هي أخطر مما سبق إذ هي متعلقة بحديث عظيم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم …. فهو :
ثالثا:
روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق.فيخرج إليهم جيش من المدينة.
من خيار أهل الأرض يومئذ. فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله!
لا نخلي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم. فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا. ويقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله.
ويفتتح الثلث. لا يفتنون أبدا. فيفتتحون قسطنطينية. فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون،
إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم. فيخرجون. وذلك باطل. فإذا جاءوا الشام خرج.
فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة. فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم. فأمهم.
فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الملح في الماء. فلو تركه لانذاب حتى يهلك. ولكن يقتله الله بيده. فيريهم دمه في حربته".
هذا حديث صحيح عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم و قد ذكر فيه بلدة دابق و قد قال شراح الحديث أن دابق هي موضع قرب حلب … و لا يوجد قرب حلب إلا هذه البلدة بهذا الاسم فعُلِم أنها هي المقصودة بالحديث و أما الأعماق فهو موضع معروف أيضا من أعمال أنطاكيا و هو اليوم داخل الحدود التركية و هناك بحيرة معروفة تسمى بحيرة العمق ذكرها و وصفها الأستاذ أحمد وصفي زكريا في كتابه :
جولة أثرية في بلاد سوريا …
تقع الأعماق خلف الجبال التركية مباشرة و قبل بلوغ أنطاكيا
بعد هذه الجولة انطلقت مع الأخ أبو أحمد سلمه الله جهة المسجد الذي يقومون بعمارته و قد سموه بمسجد الشيخ محمد على مسعود الشافعي وهو رجل ليس من أهل دابق و إنما وفد هذه البلدة من عشرات السنين
و استفاد منه الناس في دابق و قد توفي قبل 3 سنوات عن عمر يناهز ال 85 عاما و ينتسب الرجل إلى قبيلة تسمى الحديديين … و لاتباعه اعتقادات به و ينسبون له كرامات الله أعلم بها …
و أهل دابق متدينون بالفطرة و لكن في البعض منهم جهل بالتوحيد و اعتقادات ما أنزل بها من سلطان نسأل الله تعالى لهم الهداية و التوفيق …
من ذلك ما قال له رجل من هذه البلدة قال :بأن في بلدتهم صخرة مباركة على قبر ولي صالح و أرانيها… قال: كنا إذا مرض منا المريض أخذنا قدرا فيه برغل ثم أشعلنا النار على القبر!!!!
و طبخنا عليه القدر فمن أكل منه شفاه الله ببركة هذه النية!!
فقلت له : من الشافي؟ فقال: الله و هو يشفينا ببركة النية!!
قلتُ: طيب و لكن هذا الفعل فيه مخالفات عديدة:
أولا: لا وجود لدليل شرعي يجيز هذه النية فهذا من البدع في الدين..
ثانيا:من سبقكم بهذا الفعل أو من أفتاكم من العلماء؟
ثالثا: إذا كان الوطء على القبر من أكبر المنكرات فكيف بإشعال النيران عليها و الطبخ فوقها ؟؟
رابعا: إذا كنتم قد جربتم و وجدتم الشفاء في هذا فاعلموا انما هو فتنة من الشيطان لكم
يقوم الشيطان فيؤذي أولادكم ثم إذا أكلتم من هذه الطبخة كف عنهم فيتشافون لينقض عندكم أساس التوحيد لله تعالى و إذا كنتم أنتم اليوم تعتقدون أن الله هو الشافي فإن الأجيال القادمة ستعتقد أن الولي هو الشافي من دون الله … و هذا أمر موجود اليوم و بكثرة في بلاد المسلمين و للأسف الشديد …
و أين هؤلاء من قول إبراهيم عليه السلام : و إذا مرضتُ فهو يشفين!
فإذا كان إبراهيم خليل الرحمن إذا مرض فلا يستطيع نفع نفسه و هو حي فكيف بمن هو دونه من العباد أو الزهاد ؟؟؟ و هم في قبورهم؟؟ اللهم غفرك و عافيتك
عند المسجد المذكور وجدنا مجموعة من الأولاد يتدربون على الكاراتيه
ثم إني قد قررتُ بعد هذه الزيارة الجميلة و الرائعة التحرك و الانطلاق لزيارة أماكن أخرى في الريف الحلبي
فاستئذنت من الأخ أبو أحمد فأبى علي و لزم بالغداء عندهم فوافقت بشرط أن يكون الغداء جاهزا!!
فاشترى دجاجا من محل أبو عبده ملك الفروج!
ثم أخذني لبيت صاحب له قريب من هذا المطعم و كانوا قد أعدوا سفرة عامرة بالخضروات المسلوقة و الطازجة و زان السفرة فروج أبو عبده … فأكلتُ و حمدت الله تعالى فاستئذنت فقالوا لابد من شرب الشاي … فشربته ثم شكرتهم على حسن ضيافتهم و وفادتهم و استئذنتهم منطلقا و عائدا إلى اعزاز و منها
سرت إلى عفرين و قلعة سمعان
منقـــــــــــــول للامانه
المصدر\كتبهاعاشق بلاد الشام ، في 3 ديسمبر 2006 الساعة: 21:19 م