المقالة الحادية عشرة
تخففوا يا أبناء فلسطين
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
ففي أثناء انعقاد مؤتمر رابطة الشباب المسلم العربي الحادي عشر المنعقد في ديسمبر 1988م في أوكلاهوما، أقام الاتحاد الإسلامي لفلسطين مهرجاناً بمناسبة مرور عام على الانتفاضة الإسلامية في فلسطين.
وانتُدِبت لألقي كلمة أثناء الحفل الزاخر، حيث اكتظت الصالة الكبرى بالشباب الذي أقبل ليرى ويسمع، وكأن الناس على رؤوسهم الطير، ورأيت الشباب الذي يحترق أسىً ويضطرم حماساً ممسكاً أنفاسه وهو يستمع إلى الشيخ محمد صيام خطيباً، وإلى الشيخ أحمد القطان وهو يشنف الأسماع بقصيدة كأنها السياط اللاذعة، أو شواظ من نار ملتهبة.
وتكلمت كلمتي، ووضعت أبناء فلسطين أمام مسؤوليتهم التاريخية، إذ لم يعد في النفوس منزع، ونفدت سهام الكنانة، وقد آن لكم أن تأخذوا للأمر أهبته، وتعدوا للمصير عدته، ولابد لأبناء فلسطين أن يجعلوا قضية تحرير المسجد الأقصى نصب أعينهم، وأن يحولوا العواطف والمشاعر إلى سلوك وأخلاق وأحداث يراها كل ناظر.
وقلت لهم: إن الأحداث تتوالى، والزمن ليس في صالحكم، وأعداؤكم يرقبون ليعرقلوا لكم كل حركة، وهم يعدون خططهم، ويرتبون أوراقهم لإخماد أنفاسكم.
وطرحت شعاراً لو كانوا به يأخذون، ولجماح شهواتهم يكبحون، لكان لهم الذي يريدون، وهو أن يوضع صندوق في كل بيت يكتب عليه صندوق الجهاد، وليأخذ على نفسه عهداً أنْ لا يجدد هذا العام (سنة 1989م) فراشاً ولا رياشاً، ولا لباساً ولا سيارة ولا أرائك ولا نمارق، وكلما فكر في شيء من هذا وصمم عليه، حسب ثمنه ووضعه في صندوق الجهاد لفلسطين، والحق أن الشهوات قد أذلت الرقاب، والكماليات أفسدت نفسيات العباد.
وطلبت منهم أن يقسم كل منهم شهره إلى أربعة أسابيع، يأخذ لنفسه بنظام الجندية في بعض الأطعمة، وليفترضها حمية من الطبيب.
ليمتنع في الأسبوع الأول مع أسرته عن المرطبات وثمنها لصندوق الجهاد، وفي الأسبوع الثاني لتكن الحمية عن الفواكه، وفي الثالث ليمنع نفسه عن اللحوم، وفي الرابع لهم أن يعيشوا كما هم الآن يحيون.
فإذا دفع أثمان هذه التوفيرات في صندوق الجهاد، فسيجد نفسه أمام مدخر طيب يدفع الله به الجهاد، ويرفع الله به صاحبه درجات، ﴿وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين﴾ [سبأ: 39].
وفي مهرجان النساء، فجر محمد صيام قنابل شعره، ثم تكلمت والقطان، وقال القطان: من تبرعت بشيء من حليها فلها مني دعوة بأن يبارك الله حياتها وأسرتها ويدخلها الجنة؟؟ وحملت سلة صغيرة ومثلها بيد أحمد القطان.
وبدأت الحلي تنهال على هاتين السلتين وفي أقل من نصف ساعة وإذا بالحلي تملأ السلتين بما يزن 2-3 كيلوغرام ذهباً.
ولقد ترك الأخ مصطفى رجب السوري أثراً عميقاً في نفسي، إذ كان ينقلني إلى المطار بسيارته من أرلينغتون إلى المطار، وإذا به يخرج علبة مليئة بالحُلي وقال: هذه هدية زوجتي إلى المجاهدين. وكأن زوجته لم تدع لها خاتماً ولا سوارة ولا قرطاً ولا عقداً، واستعد أحد الإخوة لشرائها، فسألت الأخ مصطفى بالتليفون: كم ثمن هذه الزينة كلها؟ فأجاب: إنها عشرة آلاف دولار، وهذا مبلغ ضخم بالنسبة لامرأة زوجها كان طالباً ثم عمل ليحفظ ماء وجهه عن تكفف الناس أو سؤالهم.
إنها النفوس التي تخلصت من الشح، وتطهرت من البخل.
﴿ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ [الحشر: 9].
وكتبت لي إحدى الأخوات: أدع الله أن يبارك في ديني ودنياي وآخرتي، فلقد بِعت جميع ما أملك من حلي وتبرعت بها للمجاهدين، وقد كان ثمنها خمسة وأربعين ألف ريال سعودي.
﴿ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ [محمد: 38].
وقلت أخيراً: ليحمل القاعد المجاهد، وليجهز التاجر النافر، وأقسموا أنفسكم قسمين: قسماً خفيفاً للنفير، وقسماً ثقيلاً للتجهيز والتدبير، وستجدون أنفسكم بعد حين أنكم على جادة العودة سائرين، وفي الطريق الحق سالكين، ﴿ولتعلمن نبأه بعد حين﴾ [ص: 88].
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أنّ لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
مجلة الجهاد - العدد الحادي والخمسون
جمادى الثانية 1409هـ / فبراير 1989م