.
إني من سنين معتزل متفرد..
تمر عليّ أسابيع وأسابيع لا أزور فيها ولا أزار
ولا أكاد أحدّث أحداً إلاّ حديث العمل في المحكمة
أو حديث الأسرة في البيت. فماذا ينفعني وأنا في عزلتي
إن كان في مراكش والهند وما بينهما مَن يتحدث عني ويمدحني
وماذا يضرني إن كان فيها من يذمني أو لم يكن فيها كلها مَن سمع باسمي؟
.
هل تعرفون السراب؟ إن الذي يسلك الصحراء
يراه من بعيد كأنه عينٌ من الماء الزلال تحدق صافية في
عين الشمس فإذا كد الركابَ وحثّ الصحابَ ليبلغه لم يلقَ إلاّ التراب
.
هذه هي ملذات الحياة؛
إنها لا تلذ إلاّ من بعيد
.
يتمنى الفقير المال، يحسب أنه إذا أعطي عشرة آلاف ليرة
فقد حيزت له الدنيا، فإذا أعطيها فصارت في يده
لم يجد لها تلك اللذة التي كان يتصورها وطمع
في مئة الألف ... إنه يحسّ الفقر بها
وهي في يده كما يحسّ الفقر إليها
يوم كانت يده خلاء منها
.
ولو نال مئة الألف لطلب المليون
ولو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى له ثانياً
ولا يملأ عينَ ابن آدم إلاّ التراب. ولم أرَ أضلَّ في نفسه
ولا أغشَّ للناس ممّن يقول لك: لا تنظر إلاّ إلى الساعة التي أنت فيها
.
فإن ما مضى فاتَ والمؤمَّل غيبٌ ... ولكَ السّاعةُ التي أنت فيها
لا والله؛ ما فات ما مضى ولكن كُتب لك أو عليك
أحصاه الله ونسوه. والآتي غيب
ولكنه غيب كالمشاهَد.
.
وما مَثَل هذا القائل إلاّ كمَثَل راكب سفينة أشرفت على الغرق
ولم يبقَ لها إلاّ ساعات، فما أسرع إلى زوارق النجاة إسراع العقلاء
ولا ابتغى طوق النجاة كما يبتغيه من فاته الزورق، ولكنه عكف على تحسين غرفته
في السفينة الغارقة يزين جدرانها بالصور ويكنس أرضها من الغبار، يقول لنفسه:
ما دامت السفينة غارقة على كل حال فلِمَ لا أستمتع بساعتي التي أنا فيها؟ يُفسد عمرَه كله
بصلاح هذه الساعة
.
وإذا عرض له العقل يسفّه عملَه فليضرب وجه العقل بكأس الخمر
التي تعمي عينيه فلا يبصر ولا يهتدي، وإن من الخمر لخمرة المال وخمرة السلطان!
....
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.
.